رمضان الكريم مدرسة ربانية بحق، تتميز بمنهجها التربوي القويم، وأهدافها وغايتها السامية، وكفاياتها المنشودة في طالبها المدمج في صفوفها المترقي في مستوياتها المتلقي لمضامينها والمتدرب على أعمالها. وقد سنها الله لعباده وشرعها لهم لإصلاحهم، وجعلها فترة تدريبية لأيام معدودات، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات}(البقرة : 182).
وقد حصرت هذه الأيام المعدودة في شهر كامل، واختير لها شهر مبارك له في نفوس المسلمين مكان كريم: فهو الشهر الذي أنزل فيه القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في ليلة ذات قدر عظيم من لياليه، وهو الشهر الذي أنزل فيه أول فوج من آياته على قلب رسوله الكريم بواسطة الروح الأمين: {إقرأ بسم ربك الذي خلق}(العلق : 1). وأما من حيث المنهج التربوي الذي ارتضاه لها واضع معالمها، سبحانه وتعالى، فهو منهج الترك من جهة، والفعل من جهة أخرى : ترك المرحمات والمباحات، وفعل الأحسن والأتقى بالترقي في مدارج الفعل الأحسن ومقامات التقوى إلى المرتبة الأرقى من مراتب الإحسان والمراقبة، فإذا كانت بعض العبادات تنبني على أساس الفعل، وقد يكون بدنيا كالصلاة أو ماليا كالزكاة أو جامعا بينهما كالحج والجهاد في سبيل الله، فإن عبادة الصوم تقوم على الترك والكف والامتناع، إذ هو: الإمساك عن شهوتي البطن والفرج في جميع أجزاء النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية التقرب إلى الله تعالى (الفقه المالكي وأدلته، ج2 ص95).
وأما من حيث الغايات المنشودة لهذه المدرسة الربانية، فهي شأنها شأن أية مدرسة تربوية، تنشد: تربية الإنسان ليتحقق فيه الصلاح والإصلاح بميزان القرآن لا بموازين الأغيار، وإعداده ليكون عبدا لله بحق، منصبغا بصبغة القرآن، مرتويا قلبه بغيث وحيه، حتى يصبح نور التقوى فيه مشعا يصل وهج إشعاعه كل أقواله وأفعاله و سلوكياته، وما أجمل التعبير القرآني في بيان هذه الحقيقة: {لعلكم تتقون}. و
كما أن نظام أية مؤسسة تربوية يبرز في بنوده المواصفات الواجب توفرها في الطالب المرغوب فيه ليلج صفوفها ويتربى بمنهجها وينشأ وفق تصوراتها، فيتخرج بكفايات ومهارات منشودة، فإن مدرسة الصوم لا تشذ عن ذلك فقد اشترط مشرعها في طالبها مواصفات محددة، وحدد له كفايات أوجب عليه التحقق والتخلق بها في نهاية تخرجه منها. مواصفات طالب المدرسة الرمضانية: لقد أوجب الله تعالى على المسلمين صيام شهر رمضان، قال تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القران هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه}(البقرة :181)، وأكد النبي ذلك، حيث اعتبر صيامه من أركان الإسلام، قال : ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان))(متفق عليه). وقد أجمع العلماء على أنه يشترط في كل منخرط في هذه المدرسة الإيمانية راغب في التنعم بنفحاتها والرقي في مدارج عطاءاتها أن تتوفر فيه ستة شروط، هي: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والطهارة من الحيض والنفاس، والصحة والإقامة (القوانين الفقهية، كتاب الطهارة،ص126). فمن رحمة الله تعالى ألا يوجب الصيام إلا على كل عاقل بالغ، “فلا يجب على فاقد العقل ولا على غير البالغ، ولا على العاجز عن الصيام لمرض أو شيخوخة على أن يطعم مكان كل يوم مسكينا. وإعفاء غير القادرين على الصيام لا يعفيهم عن إجلال الشهر وعدم الإخلال بحرمته وكرامته واستغلال أوقاته فيما يستطاع من طاعات” (روح الصيام، ص14)، ومن رحمته أن أباح للمسافر الفطر ولو لم يكن فيه مشقة لقوله تعالى: {ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}(البقرة، 184). كفايات المتخرج ومهاراته: بعد استكمال الطالب فترة تدريبه يفترض أن يكون متخلقا بجملة من الصفات الحميدة والأعمال الصالحة، وأن يكون متمكنا من بعض الكفايات والقدرات حق التمكن، تمكنه من تنظيم شبكة علاقاته: علاقته مع ربه، ومع نفسه، ومع الآخرين الموافقين له في منظومة قيمه ومفاهيم تصوراته، والمخالفين له كذلك، وعلاقته بكل أفراد الكون وعناصره.
ومن جملة ما ينبغي أن ينمي الصوم في المتخرج، ما يلي:
> 1- تنمية قيمة الإخلاص: إن العبدية لله تعالى لا تتمحض إلا بتجريد النية له سبحانه وتوحيد الوجهة إليه والرغبة في ثوابه ومرضاته والرهبة من عذابه وسخطه. وكل العبادات ما شرعت إلا لتعميق هذه المعاني- التي تجمع في كلياتها أفراد الإخلاص- في نفوس الخلق، كما أن قبولها وثوابها لا يكون إلا على قدر النية والاحتساب وهما عين الإخلاص، فالصيام والأعمال المرافقة له من قيام وذكر وتلاوة للقران وتراويح…يشترط في قبولها هذا الإخلاص والاحتساب، قال رسول الله : ((من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه))(البخاري، كتاب الإيمان) وقال: ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه))(متفق عليه)، ومعنى (إيمانا): اعتقادا بأن ذلك التكليف حق شرعه الباري عز وجل، و(احتسابا): أن يريد الله تعالى وحده لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص (النووي، شرح صحيح مسلم، 2/78). يقول ابن الجوزي رحمه الله في وصيته لكل من دخل محراب الصوم: ” انظر يا مسكين…إذا قطعت نهارك بالعطش والجوع وأحييت ليلك بطول السجود والركوع، إنك فيما تظن صائم..وأنت في جهالتك جازم.. أين أنت من التواضع والخضوع، أين أنت من الذلة لمولاك والخضوع، أتحسب أنك عند مولاك من أهل الصيام الفائزين في شهر رمضان؟ كلا والله حتى تخلص النية وتجردها وتطهر الطوية وتجودها، وتجتنب الأعمال الدنية ولا تردها” (بستان الواعظين،ص315).
> 2- تنمية قيمة التقوى: التقوى حالة يقظة في القلب تجعله متيقظا لا غافلا يحذر إتيان ما يغضب الله. ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له: “أما سلكت طريقا ذا شوك؟ قال بلى، قال فما فعلت؟ قال شمرت واجتهدت، قال: فذلك التقوى”(تفسير ابن كثير لقوله تعالى: هدى للمتقين). والصوم يعلم التقوى، إذ يجعل صاحبه متيقظا محتاطا، يخشى القدوم على مالا يجوز له من أفعال وأقوال مما اعتاده في حياته اليومية، قد يستثار غضبه ويتحرك غيظه فيستحضر صومه وما يتطلبه من حلم وصبر وكظم للغيظ وعفو عن الناس، وهذا كله ترويض وتدريب للنفس على التقوى، وهذا ما أراده الحق سبحانه بقوله: {لعلكم تتقون}. قال الفخر الرازي في بيان هذه الآية: “قوله تعالى: {لعلكم تتقون}… فيه وجوه: أحدها: أنه سبحانه بين بهذا الكلام أن الصوم يورث التقوى، لما فيه من انكسار الشهوة وانقماع الهوى، فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش، ويهون لذات الدنيا ورياستها، وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج، وإنما يسعى الناس لهذين، كما قيل في المثل السائر: المرء يسعى لعارية بطنه وفرجه، فمن أكثر الصوم هان عليه أمر هذين وخفت عليه مؤنتهما فكان ذلك رادعا له عن ارتكاب المحارم والفواحش، ومهونا عليه أمر الرياسة في الدنيا وذلك جامع لأسباب التقوى”. وقال ابن عاشور: ” التقوى الشرعية هي اتقاء المعاصي، وإنما كان الصيام موجبا لاتقاء المعاصي لأن المعاصي قسمان: قسم ينجع في تركه التفكر، كالخمر والميسر والسرقة والغصب، فتركه يحصل بالوعد على تركه والوعيد على فعله والموعظة بأحوال الغير. وقسم ينشأ من دواع طبيعية، كالأمور الناشئة عن الغضب وعن الشهوة الطبيعية التي يصعب تركها بمجرد التفكر، فجعل الصيام وسيلة لاتقائها لأنه يعدل القوى الطبيعية التي هي داعية تلك المعاصي، ليرتقي المسلم عن حضيض الانغماس في المادة إلى أوج العالم الروحاني، فهو وسيله للارتياض بالصفات الملكية والانتفاض من غبار الكدرات الحيوانية”(سبيل الفلاح، 131).
> 3- تنمية قيمة الشكر: “إن صيام رمضان المبارك لهو مفتاح شكر حقيقي خالص وحمد عظيم عام لله سبحانه، وذلك لأن أغلب الناس لا يدركون قيمة نعم كثيرة…غير مضطرين إليها في سائر الأوقات… فلا يدري مثلا درجة النعمة الكامنة في كسرة خبز يابس أولئك المتخمون بالشبع…بينما يدركها المؤمن عند الإفطار أنها نعمة إلهية ثمينة…لذا ينال الصائمون في رمضان شكرا معنويا لله تعالى منبعثا من قيمة تلك النعم العظيمة. أما امتناع الإنسان عن تناول الأطعمة نهارا فإنه يجعله يتوصل إلى أن يدرك بأنها نعمة حقا، إذ يخاطب نفسه قائلا: إن هذه النعم ليست ملكا لي، فأنا لست حرا في تناولها فهي إذن تعود إلى واحد آخر، وهي أصلا من إنعامه وكرمه علينا، وأنا الآن في انتظار أمره. وبهذا قد يكون أدى شكرا معنويا حيال تلك النعم. وبهذه الصورة يصبح الصوم في حكم مفتاح للشكر من جهات شتى، ذلك الشكر الذي هو الوظيفة الحقيقية للإنسان”(المكتوبات، 486-487).
> 4- تنمية قيمة الجود والإحسان: إن الأغنياء لا يمكنهم أن يشعروا شعورا كاملا بحال الفقراء ولا أن يحسوا إحساسا تاما بجوعتهم ومسغبتهم إلا من خلال تذوق مذاق الجوع المتولد من الصوم، فتتولد لديهم بواعث حقيقية على الإحسان والشفقة والرحمة والرأفة. ولنا في رسول الله الأسوة الحسنة الذي كان من دأبه المبالغة في الجود والإحسان في شهر رمضان، وهذا ما ذكره ابن عباس رضي الله عنه، قال: “كان رسول الله أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في شهر رمضان”.
> 5- تنمية القدرة على تلقي القران: رمضان شهر القران، فهو الشهر الذي شرف بإنزال القران فيه، بل إن جميع الكتب المنزلة كان إنزالها في رمضان، قال جل ذكره: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القران هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان}(البقرة، 184)، وقال ابن كثير في شأنها: “يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور، بأن اختاره من بينهن لإنزال القران العظيم فيه، وكما اختصه بذلك فقد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تتنزل فيه على الأنبياء، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: حدثنا أبو سعيد مولى ابن هاشم، حدثنا عمران أبو العوام، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة أن رسول الله قال: أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان”، وهو الشهر الذي كان يعرض فيه النبي القرآن على جبريل ويتدارسه معه، فعن السيدة فاطمة رضي الله عنها عن النبي أنه أخبرها في آخر رمضان له أن جبريل كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة أو مرتين، وأنه عارضه الآن مرتين”.
واقتداء بالنبي وسيرا على نهجه الرباني يجب زيادة الاعتناء بالقرآن في هذا الشهر الفضيل من حيث القراءة والتعلم والتلقي والتزكية والبلاغ، لأنه الفرصة المناسبة والكفيلة بتصفية الروح وتخلية النفس من أدرانها وأرجاسها فتكون مهيأة لتلقي الأنوار الربانية والفيوضات الرحمانية. يقول بديع الزمان النورسي مؤكدا هذه الحقيقة: “لما كان القرآن الكريم قد نزل في شهر رمضان المبارك فلا بد من التجرد عن الحاجات الدنيئة للنفس ونبذ سفساف الأمور وترهاتها استعدادا للقيام باستقبال ذلك الخطاب استقبالا طيبا يليق به، وذلك باستحضار وقت نزوله في هذا الشهر والتشبه بحالات روحانية ملائكية بترك الأكل والشرب، والقيام بتلاوة ذلك القران الكريم وكأن الآيات تتنزل مجددا”(المكتوبات، 489).
> 6- تنمية القدرة على استثمار الوقت: رمضان ميزان ومقياس على حسن اغتنام الأوقات واستثمار الأعمار وعلى مدى الغبن الحاصل فيهما،إذ هو بمثابة عمر قصير له بداية منتظرة ونهاية معروفة، وهو نموذج مصغر لعمر الإنسان، فمن أضاعه فهو لما سواه أضيع، ومن أحسن فيه وأقامه أحسن قيام كان دافعا له إلى الإحسان في بقية عمره، كيف لا وهو فيه يربى على حب خالقه ويقوي على طاعته ويدرب على الالتزام بشرعه.
> 7- تقوية الروح وتقويم السلوك: ما شرع الصوم إلا لتحرير الإنسان من سلطان الغرائز وفك أغلال وأسر الشهوات، لينطلق من سجن حيوانيته إلى فيحاء روحانيته الملائكية، فيرتقي ويقترب من ربه، فيقرع باب رحمته فيستجيب له ولا يرد دعاءه، قال النبي : ((ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم…))(رواه الترمذي وابن حبان وغيرهما). كما أنه يسهم بشكل فعال في تقويم السلوك على المستوى الفردي والجماعي، فما كان مألوفا في الأيام الخوالي يعرض على الميزان فينقى من الرديء ويصفى من الغث، حتى إذا انتهى رمضان أصبح الإنسان خلقا آخر بأخلاق أخرى تشع نورا ورحمة. فاللسان فيه يقوم بترك آفاته الآثمة من غيبة ونميمة وكذب وهمز ولمز وزور.. والاشتغال بالذكر والتلاوة …عملا بقول المصطفى : ((من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))(أخرجه البخاري) وقوله: ((الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يسخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم))(أخرجه مسلم). والبصر يقوم فيه بحفظه من النظرة الحرام لأنه السبيل إلى حفظ الفرج وتجنب الفاحشة، عملا بقوله تعالى: {قل للمومنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم}(النور، 30).
ولا يقتصر الأمر عليهما بل كل الجوارح تستقيم، لأن القلب- وهو مالكها الذي يوجهها حيث يشاء- يحيى فيه بغيث القرآن فيصدر لها أوامره بالاستقامة على هديه، فيصير الإنسان جوهره وعرضه، تفكيره وتعبيره وتدبيره، على هدى من الله. سبل الارتقاء بها: لا سبيل إلى الارتقاء بمدرسة الصيام كي تخرج الربانين القانتين العابدين، إلا بفقه أسرار الصوم، والثورة على تلك الفهوم القاصرة التي حصرت الصوم في ترك شهوتي البطن والفرج فقط، ذلك أن الكثير من النصوص القرآنية والحديثية ترتقي به إلى درجة صوم الجوارح- من سمع وبصر ولسان وغيرها- عن الحرام، بل إلى درجة صوم القلب عما سوى الله في المحبة والرغبة والرهبة. وأيضا بهجر صوم العادة إلى صوم العبادة، وهو الصوم الذي حققه سلفنا الصالح: “جنوا ثماره وتفيئوا ظلاله واستمدوا منه روح القوة وقوة الروح، كان نهارهم نشاطا وإنتاجا وإتقانا، وكان ليلهم تزوارا وتهجدا وقرآنا، وكان شهرهم كله تعلما وتعبدا وإحسانا، ألسنتهم صائمة فلا تلغو برفث أو جهل، وآذانهم صائمة فلا تسمع لباطل أو لغو، وأعينهم صائمة فلا تنظر إلى حرام أو فحش، وقلوبهم صائمة فلا تعزم على خطيئة أو إثم، وأيديهم صائمة فلا تمتد بسوء أو أذى”(العبادة في الإسلام،279).
د. إبراهيم بن البو