بدأنا مناقشة هذا العنوان في الحلقة الماضية (المحجة ع 383) وبعد أن تأكدت لنا علاقة اللغة العربية المتينة بالقرآن، انطلاقا مما تثبته قاعدة الإضافة من علاقة المضاف بالمضاف إليه بناء على تسمية العنوان التي اعتمدنا في وضعها على آيات من القرآن الكريم التي سنذكرها فيما بعد. طرحنا سؤالا هو لماذا نزل القرآن الكريم باللغة العربية؟ وقد لامسنا بعض معالم الإجابة عن هذا السؤال من القرآن نفسه، وسجلنا بهذا الخصوص ثلاث آيات هي كل ما ورد في هذا الموضوع من القرآن الكريم، ولامسنا بعض معانيها العامة، وأجلنا تخْليل بعض كلماتها لضيق المجال إلى الحلقة اللاحقة، ولذا نورد الأولى منها فيما يلي :
> الأولى : قوله تعالى : {ولقد نعلم أنهم يقولون إنّما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين}(النحل : 103). تتضمن هذه الآية مجموعة من الكلمات، وهي عبارة عن أفعال مثل نَعْلم، يقولون، يُعَلم، يلحدون، وأسماء أو صفات مثل : بشر، لسان، الذي، أعجمي، عربي، مبين. والمعلوم أن لكل جنس من هذه الكلمات وظيفته الدلالية الخاصة بجنسه، العامة بين أفراد جنسه، فدلالات الأفعال غير دلالات الأسماء، ودلالات كل واحد من النوعين غير دلالات الصفات وهكذا.. وفي هذا السياق يقول د. محمد أبو موسى نقلا عن الزمخشري في قوله تعالى {إنا سخرنا الجبال معه يسبّحن بالعشي والاشراق}(ص : 18) ويسبحن : في معنى مُسبّحات (وهو اسم فاعل (صفة)) على الحال، فإن قلت : هل من فرق بين يُسبّحن ومُسبّحات؟ قلت : نعم، وما اختير يُسبِّحن على مُسبّحات إلا لذلك وهو الدلالة على حدوث التسبيح من الجبال شيئا بعد شيء وحالا بعد حال، وكأن السامع محاضر تلك الحال يسمعها تسبح))(1). ولذا يقولون : إن ((الجملة الفعلية موضوعة لإفادة التجدد والحدوث))(2) ((والمراد بالتجدد في الماضي الحصول، وفي المضارع أنه من شأنه أن يتكرر ويقع مرة بعد أخرى))(3).
بناء على ما سبق بخصوص دلالة الجملة الفعلية نلاحظ أن الأفعال الواردة في الآية التي نحن بصدد الحديث عنها جاءت كلها بصيغة المضارع الذي يفيد التجدد والحدوث، سواء ما هو مسند منها إلى فاعل مفرد مثل : نعلم، ويعلمه، أو ما كان فاعله جمعا مثل : يقولون، ويلحدون. والسؤال الذي ينبغي تدبره هو : من هو الفاعل الذي أستد إليه كل فعل من هذه الأفعال في الواقع مفرداً كان أو جمعا، وماذا ارتباط حدث المتجدد به، وما علاقة كل ذلك بما نحن بصدده الذي هو ارتباط اللغة العربية بالقرآن. وعلة نزول القرآن بها خصيصا؟ هذا مع العلم أن الفعل المحور في هذه الآية هو فعل (نعلم) وبقية الأفعال معلومة لديه فهي واقعة في حيز المفعولية لهذا الفعل، وفاعله هو الحق سبحانه صاحب العلم المطلق وفاعل يقولون، ويلحدون هم كفار قريش، كما أشار إلى هذا القرطبي في الآية قبله 101: ((قالوا (أي كفار قريش) إنما أنت مفتر))(4)، فهؤلاء الكفار هم الذين يرددون باستمرار أن القرآن لم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم من السماء كما يقول، وإنما يعلمه بشر هذا القرآن الذي يدعي أنه نزل عليه، ويقصدون بهذا البشر شابّاً كان نصرانيا فأسلم وهو أعجمي واسمه جبر، وقد أجابهم الحق سبحانه بنقيض كلامهم بما لا يقبل الشك والامتراء {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي} {وهذا لسان عربي مبين} فكل من الجملتين تتضمن اسم لسان موصوف، فالأول لسان أعجمي والثاني عربي، ولو وقفنا عند هذه المقابلة بين اللسانين لتساويا في الاعتبار، شكلا، لكن اللسان الثاني يتميز بوصف زائد هو ((مبين)). هذا بالاضافة إلى أن دلالة كلمات الجملتين غير متكافئة الاعتبار، فدلالة كلمتي الجملة الأولى ((يلحدون)) و((أعجمي)) سلبية في حين أن دلالة كلمتي الجملة الثانية إيجابية، وهذا ما يوضحه التحليل المعجمي التالي :
((ولحَد بلسانه إلى كذا : مال قال تعالى : {لسان الذي يلْحدُون إليه}الآية، وقرئ ((يُلْحدون من ألـْحَدَ. وألـْحد فلان : مال عن الحق))(5).
أ-2- عجم العجمة: خلاف الإبانة، والإعجام : الإبهام… والأعجم : من في لسانه عجمة، عربياً كان أو غير عربي…))(6). و((قال أبو سحاق : الاعجم : الذي لا يفصح، ولا يُبيّن كلامه، وإن كان عربيّ النسب كزياد الأعجم، قال الشاعر : مَنْهَلٌ للعبادِ لا بدّ منْه منْتَهى كل أعْجِمٍ وفصيح))(7).
يلاحظ بالنسبة لدلالة الكلمتين (أ-1 -2) (يلحدون وأعجمي) أنها سلبية، لأن الأولى (ألحَد) تعني من جملة ما تعنيه : الميل مطلقاً، وهذا يعني عدم استواء معناها على كل حال، وهو ما تجلى في دلالة (ألْـحَد) على وزن أفعل بأنه الميل عن الحق، وذلك ما يتشبّثُ به أولئك الكفار المعنيون بدلالة الفعل المضارع في قوله تعالى : {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي}، والعجمة التي هي عدم الإفصاح لا تليق بأي خطاب جادّ يقصد منه صاحبه تبليغ معلومة معينة لقصد معين، فضلا عن أن يكون ذلك في خطاب رب العالمين!
ب-1- عرب : أمْرُ دلالات هذه المادة وما اشتق منها عجيب، فمنها يشتق اسم أمة بكاملها، ولها دلالات تسري في شتى مناحي حياة هذه الأمة، ونقتطف من ذلك ما نراه مناسبا ويسمح به المقام يقول ابن منظور : ((والعرب : هذا الجيل لا واحد له من لفظه))(8)، ويقول ابن فارس : ((العين، والراء والباء، أصول ثلاثة (ويعني بالأصول المعاني التي تدل عليها هذه المادة الثلاثية)،
أحدها : الإبانة والإفصاح، والأخر : النشاط وطيب النفس، والثالث فساد في جسم، أو عضو، فالأول قولهم : أعْربَ الرجل عن نفسه، إذا بيّن وأوْضح. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((الثيِّب يُعْرِب عنها لسانُها والبكر تُسْتأمَرُ في نفسها)) وجاء في الحديث : ((يستحب حين يُعْرِب الصّبيّ أن يقول لا إله إلا الله سبع مرات)) أي حين يبين عن نفسه.. والأصل الآخر : المرأة العَرُوب : الضحّاكة الطيبة النفس، وهنّ العُرُب، قال الله تعالى : {فجعلناهن أبكاراً عُرباً أتراباً} قال أهل التفسير : هنّ المتحبِّبات إلى أزواجهن… والأصل الثالث قولهن : (عرِبت) معدته إذا فسدت، تعْرَبُ عَرَباً، ويقال من ذلك : امْرأة عرُوب أي فاسدة…))(9).
ب-2- مبين : كتبنا هذه الكلمة كما هي في الآية التي أخذناها منها لأن أصلها المجرد يكتب بشكلين هما (بون) و(بين) فعلنا ذلك حتى نبين الأصل الذي تنتمي إليه هذه الكلمة التي نريد شرحها يقول ابن منظور في ما دة (بون) : ((البَوْن : مسافة بين الشيئين.. ومن حق هذه الكلمة أن تجيء في باب : الباء والنون والياء…)) وهذه المادة لا تعنينا هنا لأنها لا تمت بصلة قوية إلى الكلمة التي نحن بصدد شرحها. بقدر ما تتصل بمادة (بين) يقول الراغب ((يقال بان كذا أي انفصل وظهر ما كان مستتراً منه، ولما اعتبر معنى الانفصال والظهور، استعمل في كل واحد منهما منفرداً فقيل للبئر البعيدة القعر بَيُون لبُعد ما بين الشّفر والقَعْر لانفصال حبْلها من يَدِ صاحبها. وبَان الصبح ظهر))(10) ويبدو أن (بان) مجرداً بمعنى ظهر هو أصل مبين من أبان المزيد ولهذه الكلمة أي (أبان) مزيدة بالهمزة في أولها عدة معان منها : الفصل والحَيَدَان، تقول : ((ضَرَبَهُ فأبان رأسه من جسده وفصَلَه فهو مُبين.. وأبَانَ الدّلو عن طيّ البئر : حاد بها عنه..))(11) لكن المعنى الذي يناسب الكلمة في سياق الآية المذكورة بدلالة المادة (بان) مجردة و(أبان) مزيدة هو البيان والوضوح.
وفي هذا يقول ابن منظور : ((ويقال : بان الحق يبينُ بيانا فهو بائن، وأبانَ يبين إبَانة فهو (مُبين) بمعناه، ومنه قوله تعالى : {حم والكتاب المُبين} أي الكتاب البيّن ، وقيل معنى المُبين الذي أبان طرق الهدي من طرق الضلالة، وأبان كل ما تحتاج إليه الأمة..))(12) وهذا المعنى هو الذي يحدد وظيفة اللسان العربي في الآية {وهذا لسان عربي مبين}.
وهنا نلاحظ تظافر دلالة الكلمتين (ب-1- 2) على القيام بنفس الوظيفة التي هي الإبانة والإفصاح، ولا ينبغي أن تشوش علينا بعض الدلالات السلبية للكلمتين فالمعنى الثالث الذي أورده ابن فارس لمادة عَرِب بكسر الراء أو معنى الانفصال الذي أورده الراغب لمادة (بان) لأن الكلمتين في هذين الأصلين تشكلان نواة المعنى الذي يمكن أن تتفرع عنه معاني أخرى إذ الملاحظ أن الكلمات الأربع التي نناقشها هنا تتحد في ورودها بصيغة أفْعَلَ، مثل : ألحد، وأعرب، وأبان. وكذلك أعجم التي لم نرد لها مثالا فيما سبق، فهي أيضا واردة على وزن أفعل يقول ابن منظور ((وأعجمت الكتاب : ذهبت به إلى العجمة… وأعجمت الكتاب خلاف قولك أعربته، قال رؤية :. والشعر لا يسْطيعُه منْ يظْلِمُه يريد أن يُعربه فيُعجمه معناه يريد أن يبينه فيجعله مشكلا لا بَيَان له))(13). تلك وظيفة اللسان العربي، وتلك هي علاقته بالقرآن فإلى أي حد يهتم أهل رسالة القرآن بلغة القرآن؟!
د. الـحـسـيـن گـنـوان
—–
1- البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري.. 229.
2- جواهر البلاغة 71.
3- الكليات : 841.
4- الجامع لأحكام القرآن : 176/100.
5- مفردات الراغب ص : 451.
6- مفردات الراغب.
7- ل ع 386/12 ع1.
8- ل ع 587/1 ع1 مادة عرب.
9- معجم مقاييس اللغة 299/4.
10- المفردات : 77.
11- ل ع 63/13- 64.
12- ل ع 68/13.
13- ل ع 388/12.