بما أن قيم التقوى والقيم الحضارية تشمل وتتجلى في سلوك الإنسان فردا وجماعة، وتمارس في كل مجالات الحياة، فإن مجالات اكتساب هذه القيم يشمل كل فضاء يتواصل فيه الشخص مع الآخرين فيتخذ مواقف واتجاهات ويكتسب اتجاهات وقيما، وعليه فمهمة التربية الحضارية الإيمانية تقع على عاتق كل الأطراف المعنية بالتنشئة الاجتماعية، أوبالتربية والتعليم في كل أطواره، وكذا المعنيين بإعداد الشباب وتثقيفه، بما في ذلك؛ الأسرة أولا، ثم مؤسسات التعليم والتربية النظامية، فالمؤسسات الثقافية والتوعوية كالمساجد ودور الشباب والجمعيات الدينية والمدنية وغيرها، فضلا عن مجالات التكوين الذاتي الذي أرسى قواعده الإسلام بدعوته لطلب العلم -في مجالس القرآن والذكر- من المهد إلى اللحد. ومعلوم أن اكتساب المهارات والقيم ينمو ويطرد مع مراحل نمو الإنسان، ويرتبط بتنمية أبعاد شخصيته النفسية والعقلية والاجتماعية، ورغم تعدد أبعاد الشخصية فهي وحدة لاتتجزأ، مما يفرض على وسائل التربية ووسائطها أن تعمل في انسجام وتناغم يحافظ على وحدة الشخصية وقوتها، ونظرا لارتباط التربية الحضارية الإيمانية بقناعات معينة يرجى أن تتكامل الوسائط التربوية لتحقيق نفس الأهداف، والغايات، وإن كانت إمكاناتها تختلف قوة وضعفا، مما يسوغ اهتمام وتخصص مؤسسة تربوية أو اجتماعية ما، بجانب من الشخصية وبأهداف نوعية، أكثر من غيرها.
وعليه فالإطار العام لاشتغال المؤسسات التربوية هو اعتبارالإنسان الخلية الحضارية الأولى، التي يجب تكوينها، وبناؤها، ورعايتها، المتناغمة مع شروط النهضة، وحيثيات الحضارة في إطار العقيدة الإسلامية الصافية الصحيحة، علما أن قيم التقوى والإسلام، كلها قيم حضارية بالمعنى الراقي للحضارة، كما سبق الاستدلال عليه من القرآن الكريم، وذلك لأن مقاصد الشريعة في الإسلام لم تكن إلا لتحافظ على حياة الإنسان وتحقيق حاجاته في ظل عبوديته لله، وغاية الحضارة بدورها لا تسعى إلا لرفاهية الإنسان وتحقيق الأمن والسلام، وعليه فالمجال المشترك لكل الفعاليات التربوية قصد تحقيق المواصفات المذكورة سلفا هو التكوين العلمي والروحي، وذلك بوضع مناهج علمية تربوية هادفة، وبشحذ الفعالية الروحية في الأفراد والجماعات، فالفعالية العقدية المتكاملة، تمنح الإنسان رؤية كونية متوازنة، تفسر له حقيقة الوجود، وتحدد علاقاته العبادية والتسخيرية والسيادية مع كل الموجودات ذات العلاقة به، وتحرره من كل أشكال الاستلاب أو الاستسلام للطواغيت. ونسعى في هذا المقال إلى بيان دور مؤسسات التربية في تعزيز قيم الحضارة الإيمانية، ونبدأ بدور الأسرة .
أولا – دور الأسرة في التربية الحضارية الإيمانية : للأسرة الصغيرة دور هام وأساس في التربية الحضارية الإيمانية، ومما يندرج ضمن هذا السياق ويتأسس عليه، الحرص على صلاح الأسرة نفسها وتقوية أواصر القرابة بين أطرافها لدعم كيانها الاجتماعي أولا، ثم الحضاري للأمة ثانيا، لأن باستقرار الأسرة وقوتها وصلاحها تنشأ الأجيال على الصلاح ويظهر أثر ذلك في تعاون الأفراد وتراحمهم وتعاطفهم، وينعكس بالتالي على المجتمع حيث يكثر الصالحون ويعم الأمن والسلام، ويتفرغ الجميع للإعمار والبناء، وقد حذر الله تعالى المسلمين من التدابر والتقاطع بين الأرحام والأقارب فقال تعالى : {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْارْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}(محمد: 22). لأن في قطع صلة الأرحام تقويضا لكيان الأسرة وإفسادا للحياة الاجتماعية، بعكس تقوية هذه الصلة وما ينتج عنها من التوادد والتراحم فهي التي تجلب صلاح الإنسان في الأرض وإعمارها.
ودور الأسرة الوظيفي الأول في التربية الحضارية يتجلى في البناء الوجداني والنفسي والعقلي للطفل، لكي ينشأ ذا شخصية سليمة من العقد والشعور بالنقص، ويمتلك قدرات جسمية وعقلية ونفسية متوازنة، ولا يتم ذلك إلا بإعداد الجو والمناخ التربوي القائم على الود والاحترام بين أفراد الأسرة، ففي هذا الجو يمتص الفرد تلقائياً قيما حضارية إيمانية ينطبع بها سلوكه وتوجهه الفكري، ومعلوم أن الإيمان أقوى عوامل بناء القدرات الإرادية ودعم التماسك والتوازن النفسي لدى الإنسان على الإطلاق، خاصة إذا كان هذا الإيمان نتيجة اقتناع عقلي وعاطفي، مما يستوجب تنشئة الأطفال الصغار على العقيدة الصحيحة وعلى حب كتاب الله تعالى والتخلق بأخلاق الإسلام، وذلك بتوافق مع الفطرة الإنسانية السليمة طبقا لقوله تعالى : {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها..}، ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم : >كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ..<(البخاري كتاب الجنائز). ومن ثمة فإن اللبنات الأولى للتنشئة الدينية والخلقية والحضارية إنما يكتسبها الطفل في أسرته الصغيرة، حيث محضنه الأول للإعداد والتهيئة، وبعده تأتي المتابعة المباشرة في الروض أو الكتاب فالمدرسة، فالجامعة، ثم الحياة العملية، وأهم وسيلة لاكتساب القيم في هذه المرحلة هي القدوة الصالحة، إذ يجب على الآباء أن يكونوا قدوة حسنة لأبنائهم في الصبر وحسن العشرة، وفي الإيمان وحب العلم والعمل، ويوحدوا رؤيتهم التربوية فلا يلحظ الأبناء أثرا للخلاف والتناقض في المواقف بين الأبوين، فضلا عن النزاع العائلي بينهما ، ويعلموا أبناءهم مبدأ التكافل والاحترام بين الكبار والصغار، وحب النظافة والترتيب والتنسيق وغيرها من القيم الحضارية الإيمانية، وبذلك تكون الأسرة ناجحة في تربيتها و تفوز بوعد الله في قوله تعالى : {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلحقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}(الطور: 21).
والوسيلة الثانية ربط الأطفال بكتاب الله تعالى؛ فيبدأ ون بحفظ سور من القرآن الكريم وبعض الأحاديث وهم صغار، لأن القرآن الكريم إذا كان أول ما يدخل لقلب الطفل فلا ينمحي أثره من شخصيته مستقبلا وإن وقع له زيغ أو انحراف في مرحلة شبابه، إذ غالبا ما يعود الشاب المنحرف إلى أصله. وإذا لم تؤد الأسرة دورها التربوي العملي فإن مجهود المؤسسات التربوية الأخرى يظل قاصرا عن تعميق القيم في نفوس الناشئة، وبلوغ الغايات المطلوبة. ومما تقتضيه التربية الحضارية الإيمانية من الأسرة أيضا -فضلا عن التربية الإيمانية للأبناء — العناية بتربيتهم الجسمية والصحية بدءا بقواعد النظافة والطهارة الشرعية، والتغذية الصحية بما هو حلال، والرياضة البدنية، والاهتمام بالتربية العقلية والعلمية، مع المحافظة على مشاعر الأطفال وعواطفهم وإشباع حاجاتهم للتقدير والاحترام، وتربيتهم على التعامل الحسن مع الآخرين وتشجيعهم على المبادرة وتحمل المسؤولية منذ الصغر، وعدم احتقار العمل اليدوي وتعريفهم بالحدود والضوابط التي ينبغي الالتزام بها مع الآخرين، والخوف من الزجر والعقاب مهم في التربية لأن الخوف جبلي وطبيعي في الإنسان غير أن الممارسة التربوية قد تسيء توظيف هذا الشعور البشري الطبيعي، وفي مجالنا هذا ( التربية الإيمانية) يوظف في جانب تقدير عظمة الخالق واحترام شرعه رغبة في جناته لاخوفا من انتقامه فقط ، أما القضاء على شعور الخوف مطلقا فهذا لايمكن، وإذا أمكن فلا خير فيه للإنسان، دعك من مقولات علم النفس أو السيكولوجيا (الغربية ) المتداولة حاليا والتي أفرزتها الفلسفات المادية، فهذه المقولات هي التي أفسدت علينا تربيتنا الإسلامية وزعزعت القيم وتهدد بالسقوط الحضاري فعلا، إنها مقولات إيديولوجية مدسوسة بالنسبة إلينا، وليست علما محايدا كما يعتقد أو يدعى، بينما هي في واقعها، وكما تمارس جهلا على أجيالنا تخدم الأغراض الصهيونية وفاء لمؤسسيها، مثلها مثل الفكر الشيوعي الماركسي الذي زعم أهله أنه فكر علمي، وثبت الآن فشل كل هذه الإيديولوجيات علميا وسياسيا، لأنها سراب أو زبد يوهم بالنفع وليس كذلك، فحق عليه قول الله تعالى : {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال}(الرعد :17).
ولاشك أن الأسرة التي تحرص على تكوين شخصية أبنائها تكوينًا سليمًا يتوافق مع قابليتهم واهتماماتهم، هي أسرة تسهم فعلاً في تأسيس لبنات نافعة في الكيان الحضاري المنشود، يقول أحد المفكرين : “إن نقل العقيدة وموروثات الثقافة والعادات واللغة والأدب تتم أولاً في فترة الحضانة داخل البيت، فلنحرص على أن تكون بيوتنا الحاضنة مليئة بالحق والخير والجمال، ضمانًا لجيل المستقبل وأداء لأمانة تربيته وفوزًا يرضي الله وعظيم ثوابه، وقد أوضح علماء النفس والتربية أن شخصية الطفل تتحدد معالمها وتكتسب أهم صفاتها وأبرز ملامحها في السنوات الست الأولى، وذلك أولا بالقدوة الصالحة”(1).
وفي الوسط الأسري يتم ترجمة القيم الروحية والسلوكية إلى واقع عملي، إذ يتأثر الناشئة في هذا الوسط بسلوك الأبوين باعتبارهما القدوة الحسنة لأبنائهم، كما سبق ذكره، وفيه أيضا يتعلمون أداء العبادات المفروضة، وعبادة الصلاة من أول ما أكد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، تعليما وممارسة للأطفال، حتى تصبح عملا مألوفا ومحبوبا لديهم قبل أن يخاطبوا بالوجوب والتكليف، لأن الصلاة عماد الدين، وأساس التربية الروحية، ووسيلة تهيئ المسلم إلى أن يعيش مطمئناً آمناً في الدنيا، وسعيداً راضياً في الآخرة، والقيم الإسلامية عموما يتربى عليها الشباب، ويتشربونها إذا كانت من الصفات الملازمة للسلوك اليومي للكبار في الأسرة، والمدرسة، والمجتمع، والمسجد والنادي وغير ذلك.
د محمد البوزي
——
1- أكرم ضياء العمري التراث والمعاصرة كتاب المة القطرية عدد 10 ربيع الآخر 1406 ه- ص : بتصرف.