من المعروف في الفقه الإسلامي أن صوم رمضان عبادة واجبة على كل مسلم بالغ عاقل مقيم صحيح البدن، وهو ركن من أركان الإسلام، فإذا أداه المسلم وفق ما أمر الله ورسوله، فإن له أحسن الجزاء، ويغفر الله له كل ما تقدم من ذنبه، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه))(2). غير أن الصيام الذي ينال عليه المسلم الأجر كاملا، ويغفر به الذنوب، لا يكفي فيه الإمساك عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وإنما الصوم الحق المعتد به عند الله تعالى، هو الصوم الذي يرقى بصاحبه إلى أن يضمر في باطنه كل خير، وأن تصوم كل جوارحه. وفي هذا يقول الرسولصلى الله عليه وسلم: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))(3). والسلف الصالح عندما فقهوا حقيقة الصيام هاته، كان نهارهم نشاطا وإنتاجا وإتقانا، وليلهم تزاورا وتهجدا وقرآنا، وألسنتهم لا تلغ برفث أو جهل، وآذانهم لا تسمع باطلا أو لغوا، وأعينهم لا تنظر إلى حرام أو فحش، وقلوبهم لا تعزم على خطيئة أو إثم، وأيديهم لا تمتد بسوء أو أذى(4). أجل، إن الصائم الذي يستطيع أن يمتنع عن الطعام والشراب، ويكبح جماح شهوته، ويتجنب فعل المعاصي وقول الفواحش، فإن صيامه هذا سيترتب عليه أجر كثير، وآثار عظيمة تسهم في إصلاح جانبه الروحي، وتقويم صحته وتقويتها.
ولما كانت آثار الصيام كثيرة، فإننا سوف نقتصر في هذا المقال على الآثار التربوية، التي سنعرض لأهمها فيما يلي:
1- تنمية التقوى: الصوم طريق يوصل إلى التقوى، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن هذه الغاية الكبيرة في قوله تعالى: {يَا أيّها الذين آمَنوا كُتب عَليكُم الصِّيامُ كَما كُتب على الِّذينَ مِنْ قبلكم لعلّكم تتّقون}(5). وهكذا، تبرز الغاية العظمى من الصوم، وهي التقوى؛ والتقوى إن تحققت فإنها تربي قلبَ الصائم على الخوف، ونفسَه على طاعة الله، وبهذا يبتعد عن المعاصي والمنكرات التي تغضب الله وتفسد صيامه. فقد ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبيّ بن كعب عن التقوى فقال له: “أما سلكت طريقا ذا شوك؟ قال: بلى، قال: فما عملت؟ قال: شمرت واجتهدت. قال: فذاك التقوى”(6).
2- التربية على تقوية الإرادة: لقد بلغت العادة عند بعض الأفراد إلى حد الاستعباد، فلو تأخر عنهم الطعام عن موعده فأصابهم الجوع ساءت أخلاقهم. وقد يكون سلطان المكيّفات من القهوة والشاي والتدخين أشدَّ من سلطان الطعام على أهله. فهؤلاء يُعَدُّون مستعْبَدين لعاداتهم، فإذا اضطروا، في حين من الزمان، إلى تغيير نظام حياتهم، كما يحدث في أيام الحرب، لم يستطيعوا تحمل هذا التغيير والصمود أمام تبعاته(7) ومن هنا، نجد أن الصيام أفضل أداة للانتصار على سلطان العادات، لأن الصيام يربي إرادة الصائم التي تمكنه من التحكم في شهواته ورغباته؛ بمعنى يشبعها في الوقت الذي يريد، وبالقدر الذي يريد، لا أن يبقى أسير ميولاتها المادية، وبهذا يستطيع الإنسان أن يتحرر من سلطان الغريزة، ويقبل على عبادة ربه، ويمتثل لأوامره، ويجتنب نواهيه. وفي هذا السياق، كتب عالم نفساني ألماني بحثا عن تقوية الإرادة أثبت فيه أن أعظم وسيلة لذلك هي الصيام(8).
3- التربية على المراقبة: من الثمرات التي يجنيها الصائم من صيامه التربية على المراقبة لله تعالى، فالمسلم إذا صام صوما حقيقيا فإنه يرفع من حساسية ضميره ليراقب الله عز وجل في سره وعلنه، سواء منها ما تعلق بالصوم، أو ما تعلق بغيره من العبادات والمعاملات، فلا يقْدم على عمل فيه معصية، بل يحرص كل الحرص على ما يقرب إلى الله تعالى من صالح الأعمال، اقتداء برسول اللهصلى الله عليه وسلم الذي ثبت عنه أنه كان يكثر من الطاعات في رمضان. قال عبد الله بن عباس: “كان رسول اللهصلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من شهر رمضان فيدارسه القرآن. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين يلقاه جبريل \ أجود بالخير من الريح المرسلة”(9). وإذا كان المسلم يتربى على مراقبة الله تعالى في رمضان، ويتعود المراقبة في هذا الشهر، فإن هذه المراقبة ستستمر -بلا شك – بعد رمضان، وإذا استمرت أضحى المسلم يراقب الله تعالى في كل شؤون حياته.
4- التربية على الصبر: يعتبر الصيام وسيلة فعّالة للتربية على الصبر، ذلك بأن حبس النفس عن الشهوات طوعا ينمي فضيلة الصبر لدى الصائم التي يحتاجها كل إنسان في حياته؛ لأن الحياة، بسرائها وضرائها، تحتاج إلى صبر، والصوم، كما أخبرنا رسول اللهصلى الله عليه وسلم، يعلّم الصبر، فعن أبي مجينة الباهلي عن أبيه أو عن عمه قال: ((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبي الله، أنا الرجل الذي أتيتك عام الأول. قال: فما لي أرى جسمك ناحلا؟ قال يا رسول الله، ما أكلت طعاما بالنهار، ما أكلته إلا بالليل. قال: من أمرك أن تعذب نفسك؟ قلت: يا رسول الله إني أقوى. قال: صمْ شهر الصبر ويومين بعده. قلت: إني أقوى. قال: صم شهر الصبر وثلاثة أيام بعده، وصم أشهر الحرم))(10) وجاء في حديث آخر: ((الصيام نصف الصبر))(11). وإذا كانت هذه بعض الثمرات التي يجنيها المسلم من صيام رمضان، فيجب عليه أن يصومه صوما حقيقيا.
د. اليزيد المساوي(1)
——–
1- أستاذ باحث من المغرب.
2- أخرجه البخاري في كتاب فضل ليلة القدر، باب فضل ليلة القدر.
3- أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم.
4- العبادة في الإسلام، الدكتور يوسف القرضاوي، دار المعرفة، الدار البيضاء، ص279.
5- البقرة: 183.
6- تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1983، 1/40.
7- روح الدين الإسلامي، عفيف طبارة، دار العلم للملايين، بيروت، ص276.
8- العبادة في الإسلام، مرجع سابق، ص276.
9- أخرجه النسائي في كتاب الصيام، باب الفضل والجود في شهر رمضان.
10- أخرجه ابن ماجة في كتاب الصيام، باب صيام الأشهر الحرم.
11- أخرجه ابن ماجة في كتاب الصيام، باب في الصوم زكاة الجسد.