شاع في الآونة الأخيرة، في خضم الانتخابات التي عرفتها عدد من الدول، مصطلح “التزوير الناعم” تعبيرا عما عرفته هذه الدول وطوَّرته من أساليب في تزوير إرادة المواطنين، حيث أصبح ناعما لا يكاد يُلمس، أو كما يقال عادة : “يُشَم ولا يفرك”. وقياسا على هذا المصطلح المركب الطريف، وضعتُ عنوان عمود هذا العدد، تعبيرا مني أيضا عما تعرفه أساليب الغش من “تطور وإبداع”.
لن أتحدث عن الغش في العمل أو في التجارة أو الصناعة أو الخياطة أو البناء أو شق الطرقات، أوما شابه ذلك، ولكني سأتحدث عن الغش في مجال يهدد الأمة بأسرها في حاضرها، ومستقبلها، إنه الغش في الامتحانات. كان يقال قديما: “في الامتحان يُعَزُّ المرء أو يهان”، تعبيرا عما للامتحان من دور في تمحيص الحق من الباطل، وتخليص الزَّبد من الزُّبدة، وأما الآن فقد تغير الشِّعار، وأصبح الناس يرددون مقولات مؤداها: “في الامتحان يغشُّ المرء أو يهان”، أي إما أن تغش في الامتحان فتتفوق وتنجح، وإما أن تُخْلص العمل فتتأخر وتتقهقر. آفة كبيرة حلت بمجتمعنا، حتى أصبح أغلب الممتحَنين، على اختلاف مستوياتهم وطبقاتهم، يتفننون في طرق الغش وأساليبه، سواء على الطريقة “التقليدية” القائمة على الورق وما ارتبط به، أو “الطريقة الحديثة” المعتمدة على الرقميات ووسائل الاتصال، وغدا المتفوقون في هذا الباب “قدوة” لغيرهم، بل ربما سَوّقوا منتوجهم، ولو وجدوا سبيلا لسجلوه في براءات الاختراع.
وأظن أنه من المسلَّم به لو أن هؤلاء “المبدعين” في مجال الغش خصصوا ما يصرفونه من وقت في “محاولات إبداع أساليب الغش وتطويرها”، للفهم والاستيعاب، أو حتى الحِفْظ والتحصيل، لكانوا قدوة صالحة في مجال المثابرة والإخلاص والجد والاجتهاد. وأكبر من هذا، وآفة الآفات أن يجد هؤلاء الغشاشون سندا لهم، إما “تربويا”، ممن يفترض أن يكونوا “قدوة” في مجال التربية والتعليم، وإما “رسميا” ممن يُفترض أيضا أنهم “قدوة” في حماية الحق العام، وحماة للجادين المخلصين، وحواجز متينة أمام الغشاشين الظالمين المعتدين. أقول هذا لأن تجربة هذه السنة في امتحانات الباكالوريا، على الأقل في بعض الأكاديميات، حيث أسندت مراقبة الممتحَنين إلى مدرسي المؤسسة ذاتها، أثبتت ذلك في أكثر من جانب، أقصد “السند” ولو بشكل غير مباشر، ولعل أبرز هذه الجوانب ما يبدو على وجوه التلاميذ من علامات الاستبشار والترحيب إن جاءهم من يعرفونه متساهلا و”سندا”، وما كان يبدو عليهم، في المقابل، من علامات الغضب والانهيار إن دخل عليهم من يعرفونه جادا مخلصا، بل حتى قبل الدخول إلى القاعات كانت النداءات تُوجه من قبل شرائح من التلاميذ إلى أساتذة بأعيانهم دون غيرهم.
إلى غير ذلك من الحالات التي عاشها الأساتذة المدرسون المخلصون الذين يحترقون بأكملهم غيرة على هذه البلاد، والتي عاشها آباء، ممن يرون فلذات أكبادهم الذين يصِلون الليل بالنهار من أجل الدراسة والتحصيل، يذهبون ضحية أشخاص آخرين وصلوا ليلهم بنهارهم على الفايسبوك والعوالم الافتراضية، وإذا بهم قد حضروا إلى قاعة الامتحان وأحضروا معهم كل ما “لذ وطاب” من أساليب الغش. ما كنت لأكتب هذا لولا أن عزيزا غاليا كان مرشحا لامتحانات الباكلوريا أنهى إجابته في وقت مبكر نسبيا، فلما أراد أن يغادر القاعة، قال المراقب “إن كانت لديك وثيقة يمكن أن تستعين بها”، نعم وثيقة !!!. ثم بعد هذا كان الخطاب بالفرنسية، ولهذا وضعت عنوان “الغش الناعم” لهذا المقال، حيث تبدو النعومة أولا في الكلام بالفرنسية، وكأن العربية خشنة أو فاضحة للغش، بينما لغة موليير لغة ناعمة تصويرية، وزادها مصطلح “وثيقة” نعومة وليونة. ولست أدري كيف كان موقف هذا المراقب حينما قال له المرشح لا أحتاج إلى ذلك، خاصة وأنه قد سمح لكل من له “وثيقة” ب”الاستفادة” منها. أشفق على هؤلاء الأساتذة المساكين، أو على بعضهم على الأقل الذين يظنون -أو هكذا أحسب أنا على الأقل- أنهم يقدمون خدمة إلى التلاميذ بهذه الأفعال وما شابهها، أو يعتقدون أنهم يتضامنون معهم بحكم أنهم في موقف ضعف، لكنهم لا يرون أنهم بأفعالهم هذه يدمرون المستقبل بأجمعه، مستقبل هؤلاء التلاميذ أولاً إذ أنه سيتخرج لدينا مجموعات من المعوقين تربويا ومعرفيا وعلميا ولغويا، ومستقبل الأمة بأسرها، حيث إن كثرة الغش وشيوعه، سيدفع بالتأكيد إلى الاتكال والتكاسل، وبذلك سيقل المبدعون والنبهاء والنوابغ، إذ أن طاقة الإبداع قوة كامنة لدى الأفراد، إذا لم تجد من يشحذها ويوقدها ويوجهها سرعان ما تنطفئ وتتلاشى. هذا فضلا عما يؤدي إليه الغش من فقدان مصداقية شواهدنا الوطنية.
د. عبد الرحيم بلحاج