بوسع الأتراك الاعتراف بأن “استراتيجية العمق” التي يعمل بها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وأدت إلى انفتاح بلاده على العالم العربي، نجحت في بلدان عربية باستثناء سوريا. قبل بزوغ شمس الربيع العربي كانت علاقات تركيا مع الجار السوري قد شهدت تحولاً جذرياً. خلال عهد الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، كانت العلاقات متوترة بين البلدين باستمرار، من ضمن الأسباب دعم السوريين لحزب العمال الكردستاني الذي ما زال يخوض حرباً مع النظام التركي، بالإضافة إلى الخلاف حول منطقة “اسكندرون” على حدود البلدين التي تقول سوريا إنها تابعة لها، وكذلك الخلاف على مياه نهر الفرات الذي يشكل عصب الحياة بالنسبة الى السوريين، حيث تشيّد تركيا السدود كي تضمن لنفسها الاستفادة من مياه النهر المذكور. كما كان البلدان على وشك الدخول في حرب في عام 1999 بسبب غضب الأتراك من الدعم السوري لمقاتلي حزب العمال الكردستاني. خلال الحرب الباردة بين الشرق والغرب كانت سوريا تعتمد مثل اليوم على دعم سياسي وعسكري من الاتحاد السوفياتي، بينما تركيا منذ عام 1952عضو في حلف شمال الأطلسي(ناتو). العلاقات بين البلدين تغيرت فجأة مع بدايات القرن الحالي، فقد بدت العلاقات كأنها “فجر جديد” وأمل بمستقبل واعد بين بلدين متجاورين. وكان أردوغان بعد وصوله إلى السلطة في عام 2002 قد وضع سياسة خارجية جديدة لتركيا شعارها “لا نزاعات مع الجيران” وهي التي قادت إلى تقارب كبير بين أردوغان والأسد (الابن) وأصبحا أصدقاء، ما انعكس بصورة خاصة على التبادل التجاري بين البلدين وتم إلغاء التأشيرات وتم فتح الحدود كما هو معمول به بين الدول الأوروبية المنضمة لاتفاقية “شنغن”.
لكن شهر العسل التركي السوري انتهى مع بزوغ شمس الربيع العربي، ذلك أن أردوغان الذي قاد عملية ديمقراطية في بلده أنهت نفوذ الجنرالات الأشداء، تعاطف منذ اللحظة الأولى مع الشعوب العربية، ورأى أنّ من حقها أن تنتفض على الحكام، وبينما حصل تغيير في تونس ومصر وليبيا، فإن الربيع العربي تقف أمامه عراقيل كبيرة في سوريا. في تلك الفترة وتحديداً في آذار 2011 كان أمل الحكومة التركية أن يسمح الأسد بعملية تغيير ديمقراطية وأن يتجاوب مع مطالب الشعب السوري، لكن أردوغان بدأ يفقد صبره حيال الأسد بعدما كان رد الأخير هو العنف المفرط ضد معارضي نظامه. وأمام البرلمان التركي بتاريخ 21 حزيران عام 2011 قال أردوغان إن الرئيس السوري وعده بحصول تغيير وإصلاحات في سوريا لكنه برهن أنه كاذب. بالنسبة الى أردوغان لا يمكن قبول سوريا بقبضة الأسد ونظامه. وأصبحت تركيا أكبر حليف للمعارضة السورية والمجلس الوطني السوري الذي أسسه معارضون في الخارج، وفتحت أراضيها للسوريين الهاربين من العنف، الذين وصل عددهم إلى أكثر من 15 ألف نازح يعيشون في مخيمات أقامها الأتراك في مناطق متاخمة للحدود مع سوريا. رد النظام السوري بوضعه تركيا على قائمة “دول محور الشر” كما تقول وسائل الإعلام السورية الرسمية. بعد أن أسقطت وسائل الدفاع الجوي السوري طائرة حربية تركية فوق أراضيها حسبما تقول دمشق، بلغ التوتر بين البلدين أعلى مستوى، ولما طلبت تركيا عقد اجتماع لحلف الناتو لبحث “الاعتداء السوري” تبين لها أن الحلف لا يرغب في التدخل بهذا النزاع، وأنه اكتشف أن لإمكاناته حدوداً خلال الحرب التي خاضها في ليبيا وأدت إلى سقوط نظام معمر القذافي، ونتيجة لسياسات التقشف في دول الحلف بسبب الأزمة المالية العالمية فقد خفضت إنفاقها على الأسلحة، لذلك فإن خزينة المال الخاصة بالناتو خاوية، علاوة على أنه لا يريد الدخول في مواجهة غير مباشرة مع روسيا، القوة الحامية للأسد وليس مع إيران أيضاً. النزاع التركي السوري لم يعد في ظل الأوضاع الجديدة مجرد نزاع بين بلدين جارين، صحيح أن علاقاتهما ساءت وأصبحت كما كانت في عهد الرئيس السوري السابق، إلا أن أردوغان حريص على عدم التورط عسكرياً، إذ إن حكومته استطاعت أن تكتسب شعبية واسعة بسبب سياساتها التي أدت إلى ازدهار الاقتصاد التركي بشكل غير مسبوق، ودخول بلاده في حرب سوف يهدد هذا الازدهار، ثم إن نظام الأسد سوف يساعد مقاتلي حزب العمال الكردستاني في فتح جبهة ثانية غير شمال العراق لمقاتلة الجيش التركي وسوف تصبح إنجازات أردوغان في الداخل أمام خطر حقيقي.
سمير عواد