المناسبة شرط كما يقال، نحن على أبواب بداية امتحانات نهاية السنة الدراسية والجامعية، والجميع في حالة استنفار من أجل تحقيق مستوى أفضل للأبناء فلذات الأكباد، والكل يوصي أولاده بالجد والاجتهاد وحسن التحصيل من أجل تحقيق هذا الهدف، ولم يكن أسلافنا ببعيدين عن هذا الموضوع، فلقد أُثرت عنهم وصايا عديدة ومتنوعة في موضوعاتها وأشكالها، وهي مدرجة في العديد من أبواب الأدب من كتب التراث. ومن المعلوم أن الوصية شأن دأب عليه الآباء منذ القديم، فلقد ذكر القرآن الكريم وصية إبراهيم ويعقوب عليهما السلام لأبنائهم، كما ذكر وصية لقمان لابنه. وفي الحديث النبوي الشريف عدد من الوصايا التي وجهها الرسول لأشخاص بأعيانهم أو لأمته بصورة عامة. وبهذه المناسبة نخصص نافذة هذا العدد للوصايا لنعرف بعض ما كان يهتم به الآباء من شأن أبنائهم.
أولا: في التربية والتعليم
أَوْصَى مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ مُؤَدِّبَ وَلَدِهِ، فَقَالَ لَهُ : >إِنِّي قَدْ وَصَلْتُ جَنَاحَكَ بِعَضُدِي، وَرَضِيتُ بِكَ قَرِينًا لِوَلَدِي، فَأَحْسِنْ سِيَاسَتَهُمْ تَدُمْ لَكَ اسْتِقَامَتُهُمْ وَأَسْهِلْ بِهِمْ فِي التَّأْدِيبِ عَنْ مَذَاهِبِ الْعُنْفِ، وَعَلِّمْهُمْ مَعْرُوفَ الْكَلامِ وَجَنِّبْهُمُ مُثَاقَبَةَ اللِّئَامِ، وَانْهَهُمْ أَنْ يُعْرَفُوا بِمَا لَمْ يُعْرَفُوا، وَكُنْ لَهُمْ سَائِسًا شَفِيقًا، وَمُؤَدِّبًا رَفِيقًا، تُكْسِبْكَ الشَّفَقَةُ مِنْهُمُ الْمَحَبَّةَ، وَالرِّفْقَ، وَحُسْنَ الْقَبُولِ، وَمَحْمُودَ الْمَغَبَّةِ، وَيَمْنَحْكَ مَا أَدَّى مِنْ أَثَرِكَ عَلَيْهِمْ، وَحُسْنُ تَأْدِيبِكَ لَهُمْ مِنِّي جَمِيلُ الرَّأْيِ، وَفَاضِلُ الإِحْسَانِ وَلَطِيفُ الْعِنَايَةِ<. وقال هشام بن عبد الملك لسليمان الكلبي مؤدب ولده: >إن ابني هذا هو جلدة ما بين عيني، وقد وليتك تأديبه، فعليك بتقوى الله، وأدِّ الأمانة، وأول ما أوصيك به أن تأخذه بكتاب الله، ثم رَوِّه من الشعر أحسنه، ثم تخلل به في أحياء العرب، فخذ من صالح شعرهم وبصره طرفاً من الحلال والحرام، والخطب والمغازي<.
وقال عقبة بن أبي سفيان لما دفع ولده إلى المؤدِّب: >ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بني إصلاح نفسك< فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيح عندهم ما استقبحت، وعلمهم سير الحكماء، وأخلاق الأدباء، وتهددهم بي، وأدبهم دوني، وكن لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء حتى يعرف الداء، ولا تتكلن على عذر مني< فإني اتكلت على كفاية منك<.
> البيان والتبين للجاحظ
وقال هارون الرشيد لما دفع ولده الأمين إلى المؤدِّب: >يا أحمد، إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه، وثمرة قلبه، فصيِّر يدك عليه مبسوطة، وطاعتك له واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين، أقرئه القرآن، وعرفه الأخبار، وروّه الأشعار وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام وبذيئه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإنْ أباهما فعليك بالشدة والغلظة<.
وقال عبد الملك بن مروان ينصح مؤدب ولده: >علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، واحملهم على الأخلاق الجميلة، وروّهم الشعر يشجعوا وينجدوا، وجالس بهم أشراف الرجال وأهل العلم منهم، وجنبهم السفلة فإنهم أسوأ الناس أدبا، ووقرهم في العلانية وأنبهم في السر، واضربهم على الكذب< فإن الكذب يدعو إلى الفجور، وإن الفجور يدعو إلى النار<.
> مقدمة ابن خلدون
وقال أحد الحكماء لمعلم ولده: >لا تخرجهم من علم إلى علم حتى يحكموه< فإن اصطكاك العلم في السمع، وازدحامه في الوهم مضلة للفهم<. ومن وصية ابن سينا في تربية الولد: >أن يكون مع الصبي في مكتبه صبية حسنة آدابهم، مرضية عاداتهم< لأن الصبي عن الصبى ألقن، وهو عنه آخذ، وبه آنس<. وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل الشام يقول لهم: >علموا أولادكم السباحة والرمي والفروسية<.
ثانيا: في الأمور العامة أوصى أب ابنه فقال: إياك والسرعة عن المسألة بنعم، فإن أولها سهل في مخرجها وآخرها ثقيل فيفعلها، واعلم أن (لا) وإن قبحت فربما روحت، وإن سُئلت أمراً فقدرت عليه فأجب، وإن عرفت ألا سبيل إليه فاعتذر منه، فإنه من لم يعد معتذراً فقد ظلم. وقال ابو الأسود الدؤلي وهو يوصي ابنه: يابني إن كنت في قوم فلا تتكلم بكلام من هو فوقك فيمقتوك ولا بكلام من هو دونك فيزدروك. وأوصى عبد الله بن شداد ابنه محمداً، فقال: عليك بتقوى الله، وليكن أولى الأمور بك شكر الله وحسن النية في السر والعلانية فإن الشكور يزداد، والتقوى خير زاد، ولا تزهدن في معروف فإن الدهر ذو صروف، والأيام ذات نوائب على الشاهد والغائب، فكم من راغب قد كان مرغوباً إليه، وطالب أصبح مطلوباً ما لديه، واعلم ان الزمان ذو ألوان، ومن يصحب الزمان يرى الهوان، وكن جواداً بالمال في موضع الحق، بخيلاً بالأسرار عن جميع الخلق، فإن أحمد جود المرء الإنفاق في وجه البر، وإن أحمد بخل الحر الضن بمكتوم السر، وإن غلبت يوماً على المال فلا تدع الحيلة على حال فإن الكريم يحتال والدنيء عيال، وكن أحسن ما تكون في الظاهر حالاً أقل ما تكون في الباطن مالاً، فإن الكريم من كرمت طبيعته وظهرت عند الإنفاذ نعمته، وإن سمعت كلمة من حاسد فكن كأنك لست بالشاهد، فإنك إن أمضيتها حيالها رجع العيب على من قالها، وكان يقال : الأريب العاقل هو الفطن المتغافل، ولا تواخ إمرأً حتى تعاشره وتتفقد موارده ومصادره، فإذا استطبت العشرة ورضيت الخبرة، فواخه على إقالة العثرة والمواساة على العسرة، وإذا أحببت فلا تفرط وإذا أبغضت فلا تشطط فإنه قد كان يقال: أحبب حبيبك هوناً ماعسى ان يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوما ًما. وعليك بصحبة الأخيار وصدق الحديث، وإياك وصحبة الأشرار فإنه عار.
> الأمالي لأبي علي القالي
وأوصى عمير بن حبيب، وهو من الصحابة، بنيه، فقال: يابني إياكم ومخالطة السفهاء فإن مجالستهم داء، وإن من يحلم عن السفيه يسر بحلمه، ومن يجبه يندم، ومن لايقر بقليل مايأتي به السفيه يقر بالكثير، وإذا أراد أحدكم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فليوطن قبل ذلك على الأذى، وليوقن بالثواب من الله عز وجل، فإنه من يوقن بالثواب من الله عز وجل لا يجد مس الأذى. > الكامل للمبرد وقال الشيخ الدشناوي وهو يوصي ابنه: >يا بني أرشدك الله وأيّدك، أوصيك بوصايا إن أنتَ حفظتَها وحافظتَ عليها رجوتُ لك السعادة في دينك ومعاشك بفضل الله ورحمته.. فأولها وأولاها: مراعاة تقوى الله العظيم بحفظ جوارحك كلها من معاصي الله عز وجل حياء من الله، والقيام بأوامر الله عبودية لله. وثانيها: ألاّ تستقر على جهل ما تحتاج إلى علمه. وثالثها: ألاّ تعاشرَ إلا من تحتاج إليه في مصلحة دينك. ورابعها: أن تنتصف من نفسك ولا تنتصف لها إلا لضرورة. وخامسها: ألاّ تعاديَ مسلماً ولا ذمياً. وسادسها: أن تقنع من الله بما رزقك من جاه ومال. وسابعها: أن تُحسِن التدبير فيما في يدك استغناء به عن الخلق. وثامنها: ألاّ تستهين بمِنَنِ الناس عليك. وتاسعها: أن تقمع نفسك عن الخوض في الفضول بترك استعلام ما لم تعلم، والإعراضِ عما قد علمتَ. وعاشرها: أن تلقى الناس مبتدئاً بالسلام، محسناً في الكلام، منطلق الوجه، متواضعاً باعتدال، مساعِداً بما تجد إليه السبيل، متحبباً إلى أهل الخير، مدارياً لأهل الشر، مبتغياً في ذلك السنّة<.
> الطالع السعيد للأُدفوي
وأوصى عمر بن هبيرة بعض بنيه فقال: لاتكونن أول مشير، وإياك والرأي الفطير، وتجنب ارتجال الكلام، ولا تشر على مستبد، ولا على وغد، ولاعلى متلون، ولاعلى لجوج، وخَف الله في موافقة هوى المستشير، فإن التماس موافقته لؤم، وسوء الاستماع خيانة.
> عيون الأخبار لابن قتيبة
روي أن الخنساء -وقيل غيرها- أوصت ابنتها قبيل زواجها، فقالت: أي بنية! إنك فارقت البيت الذي منه خرجت، وخلفت العش الذي فيه درجت إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فأصبح بملكه إياك رقيباً ومليكاً، فكوني له أمة يكن لك عبدا ًوشيكا. أي بنية، احفظي له عشر خصال يكن لك ذخراً وذكراً: فأما الأولى والثانية فالصحبة له بالقناعة، والمعاشرة بحسن السمع والطاعة، وأما الثالثة والرابعة: فالتعهد لموقع عينيه، والتفقد لموضع أنفه، فلا تقع عيناه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب الريح. وأما الخامسة والسادسة: فالتفقد لوقت طعامه، والهدوء عند منامه، فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة. وأما السابعة والثامنة: فالاحتفاظ بماله، والإرعاء على حشمه وعياله، لأن الاحتفاظ بالمال من حسن الخلال، ومراعاة الحشم والعيال من الإعظام والإجلال. وأما التاسعة والعاشرة: فلا تفشي له سراً، ولا تعصي له أمراً، فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره. ثم اتقي-مع ذلك- الفرح بين يديه إذا كان ترحاً، والاكتئاب عنده إن كان فرحاً، فإن الخصلة الأولى من التقصير، والثانية من التذكير. وكوني أشد ما تكونين له إعظاماً يكن أشد ما يكون لك إكراماً، وكوني أكثر ما تكونين له موافقة، يكن أطول ما يكون لك مرافقة. واعلمي أنك لا تصلين إلى ما تحبين حتى تؤثري رضاه على رضاك، وهواه على هواك فيما أحببت وكرهت. وأوصت أعرابية ابنها وقد أراد سفراً فقالت له: أي بني، إنك تجاور الغرباء وترحل عن الاأصدقاء ولعلك تلقى غير الاأعداء، فخالط الناس بجميل البشر، واتق الله في العلانية والسر، وإياك والنميمة فإنها تزرع الضغينة وتفرق بين المحبين. وإياك والتعرض للعيوب فتُتخذ غرضا وخليق ألا يثبت الغرض على كثرة السهام. وإياك والجود بدينك والبخل بمالك. وإذا قصدت فاقصد كريماً يلين لقصدك، ولا تقصد اللئيم فإنه صخره لا ينفجر ماؤها. ومثِّل لنفسك ما استحسنت من غيرك فاعمل به، وما استقبحت من غيرك فاجتنبه، فإن المرء لا يرى عيب نفسه.
> الأمــالي
وأوصى أب ابنه فقال: يا بنيّ، عليك بتقوى الله وطاعته، وتجنّب محارمَه باتّباع سنّته،ومعالِمَه حتى تصحّ عيوبك، وتقرّ عينك… أطع أباك، واقتصر على وصيّة أبيك، وفرّغ لذلك ذهنك، واشغل به قلبك ولبّك، وإيّاك وهذر الكلام، وكثرة الضّحك، والمزاح، ومهازلة الإخوان، فإن ذلك يذهب البهاء، ويوقع الشّحناء. وعليك بالرزانة والتّوقّر، من غير كبر يوصف منك، ولاخيلاء تحكي عنك. والق صديقك، وعدوك بوجه الرضا، وكفّ الأذى، من غير ذلّة لهم ولا هيبة منهم، وكن في جميع أمورك في أوسطها، فإن خير الأمور أوساطها، وقلّل الكلام، وأفش السّلام، وأمشِ متمكّناً قصداً، ولا تخطّ برجلك، ولا تسحب ذيلك، ولا تلو عنقك ولا رداءك، ولاتنظر في عطفك، ولا تكثر الالتفات، ولا تقف على الجماعات، ولا تتّخذ السوق مجلساً، ولا الحوانيت متحدّثاً، ولا تكثر المراء، ولا تنازع السّفهاء، فإن تكلّمت فاختصر، وإن مزحت فاقتصر، وإذا جلست فتربع، وتحفّظ من تشبيك أصابعك وتفقيعها، والعبث بلحيتك وخاتمك، وذؤابة سيفك، وتخليل أسنانك، وإدخال يدك في أنفك، وكثرة طرد الذباب عنك، وكثرة التثاؤب والتّمطّي وأشباه ذلك. وإذا وعدت فحقّق، وإذا حدّثت ف%