قال الله جلت حكمته : {ق و القرآن المجيد. بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب. }(1- 2)
تـقـديـم : أما هذه السورة فهي سورة الآخرة..! بل إنها من أعظم سور اليوم الآخر في القرآن الكريم، الركن الأعظم من أركان الإيمان، بعد ركن الإيمان بالله. إن سورة >ق< هي فاتحة سور >المفصّل< على القول الراجح(1)، وهي بموضوعها الأخروي الخالص، كأنها تنبئ عن الطبيعة الغالبة على هذا الفصل الأخير من كتاب الله، بما امتاز به من تقرير عقيدة البعث والنشور، وإلقاء النُّذُر الشديدة والوعد الوعيد وزلزلة النفس الإنسانية، وإيقاظها بقوة على حقيقة المصير البشري، وفناء الو جود كله، والكشف عن مشاهد جليلة من شؤون الربوبية، وعظمة الله الواحد القهار، وقدرته الخارقة على الخلق، وعلى إعادة الخلق؛ بما يعقد النفس على اليقين القاطع بحقيقة يوم القيامة! إن سور المفصّل -من سورة >ق< إلى سورة الناس، خاتمة الكتاب- بما لها من خصوصيات تعبيرية، وجمل قصيرة قوية، محملة بذخيرة حية شديدة، هي أشبه ما تكون بشهب ملائكية، أو مُذَنّباتٍ نارية، تقع من السماء فتقصف ظلمات الشك والريب في النفس الإنسانية، وتدمر حصون الجحود والإلحاد، وتحطم نظريات الكفر بالله واليوم الآخر تحطيماً! ولقد كانت سورة >ق< بافتتاحها للمفصل تعبر عن وحدته الموضوعية، وتنبئ عن محوره الرئيس، الذي تدور حوله جميع فروعه وقضاياه الجزئية، سواء كانت في العقيدة أو التشريع أو القصص.. فمهما كان من هذا وذاك؛ فسورة >ق< تشير إلى أن طبيعة المفصل أخروية خالصة، وكل ما اندرج في سوره من آيات إنما هو يخدم هذه الحقيقة العظمى : الآخرة! بل لك أن تقول : إن حزب المفصل من القرآن الكر يم هو كتاب الآخرة! ولذلك كان السلف -رضوان الله عنهم- يجعلونه -بجميع ما تضمن من أحزاب وأجزاء- حزباً واحدا، ويسمونه >حزب المفصل<! كما قاله ابن كثير رحمه الله(2). وفي الصحيح أن بعض الصحابة كان يسميه : >المحكم<، فعن سعيد ابن جُبير عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال : جمعْت المُحْكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت له : وما المُحْكم؟، قال : المُفَصّل!(3)، وذلك لدورانه في الغالب على محكمات القرآن العقدية، وأركان الإيمان جميعا(4). إلا أن اصطلاح >المفصل< هو الذي جرى به الاستعمال عند غالب أهل العلم، وأصل ذلك حديث أقسام القرآن، الذي يرويه واثِلة بن الأسقع ]، حيث جعل النبي صلى الله عليه وسلم سور المفصل كلّها قسما واحداً، قال صلى الله عليه وسلم : >أُعْطيت مكان التّوراة السّبع الطّوال، وأعْطيتُ مكان الزّبور المِئِىن، وأُعْطيت مكان الإنجيل المَثَاني، وفضِّلْت بالمُفَصَّلِ!<(5).
ومن هنا جا ءت سورة >ق< -باعتبارها فاتحة المفصل كما ذكرنا- تحمل كل خصائصه التعبيرية والموضوعية، حيث إن الموضوع الرئيس الذي تدور حوله السورة، إنما هو تقرير عقيدة البعث، وإثبات حقيقة الحشر، وعرض مشهد النشور، والوقوف بين يدي اللّه يوم القيامة، وما يتعلق بذلك كله من ثواب وعقاب! إلا أن تقرير ذلك فيها وارد على وجه متفرد في القرآن كله! بما وقع فيها من استعراض مظاهر الرهبة والجلال، من عظمة الله رب العالمين، خلقا للسماوات والأرض وما فيهما من حياة، وإحاطةً بما خلق من ذلك كله، تقديراً وتدبيراً ومصيرا..! وسيطرته الكاملة على كل شيء، ورقابته الصارمة الشديدة على خلقه؛ بما يجعل هذا الإنسان المخاطَب بالتكليف، واقعاً في قبضته جل جلاله، خاضعاً لسلطانه تعالى، محاصراً من كل جهاته بشمول علمه، ودقة رقابته، خطوةً خطوة، ولفظةً لفظةً، إلى أن يمثل بين يدي ربه العظيم الذي خلقه فأماته ثم بعثه! ومن ثم كان وصف الخالقية في ذات الله جل جلاله يضرب في هذه السورة ببروق شديدة؛ ليكشف بقوة عن هذه الحقيقة العظمى، الحقيقة التي غفل عنها العالَم : البعث بعد الموت، وخروج الناس مرة أخرى من العدم إلى الوجود؛ حشراً لهم إلى ساحة الحساب، لتلقي الجزاء خيراً أو شراً! إن حديث القرآن عن الآخرة كثير… ولكل حديث من ذلك جلالُه وجمالُه.. لكنّ لسورة >ق< من تلك النصوص جميعها خصوصاً! إنها تجعل الإنسان يعيش لحظة البعث بكل كيانه ووجدانه، وترحل بالمتلقي لها في الزمن الآتي؛ حتى تضعه على شفير قبره! فإذا به ينهض مع الناهضين، أشعت أغبر..! يسكنه الذعر ويملؤه الرّهب! ويبصر الخليقة حواليه وهي تخرج من قبورها هنا وهناك… ملايين الملايين من الأجداث تلفظ أصحابها! مبعثرة في كل مكان من الأرض، بعضها يلتصق ببعض، وبعضها فوق بعض! يخرجون منها سراعاً، وقد نبتت أجسادهم من تربتها كما ينبت البقل! ثم ينطلقون إلى ربهم عراة كما خلقهم أول مرة! ويندفع الإنسان في سورة >ق< مع السيل البشري الكبير، يمضي في طريقه إلى الله، معه سائق وشهيد! وليس له من محامٍ أو نصير، سوى الفقر الكامل إلى الله الواحد القهار..! ويتجلى الملِكُ العظيم للفصل بين العباد، فيشاهد العبد من جلال الربوبية ما تقشعرّ له الأبدان! بل ما تصعق له الأنفس وينْهدُّ له الكيان!.. فتتكلم الأعمال والأنفس والشهود والقرناء! ثم يضرب سيف العدل الإلهي ضربتَه القاضية! فيُلْقى أهلُ جهنم في سعيرها، ويُسْتقبلُ أهل الجنة بالخير والسلام! إن سورة >ق< طرق شديد على القلب البشري، طرقٌ يوقظه على مشاهد فقره وعجزه، وحاجته الشديدة إلى رحمة ربه! طرق يزلزل أركانه، ويهز كيانه، ليشاهد قدرة الله عليه، وإحصاءه لدقائق قوله وفعله، وتحكمه في موته وحياته، وفي جميع مآله ومصيره!.. إنها سورة تلطم الإنسان لطمات قوية! ليستيقظ من غفوته فيشاهد سرعة فناء هذه الحياة الدنيا! عساه يبادر إلى تلافي أعماله وأقواله، بالإصلاح والتقويم، ويدل مسرعاً تحت ربْق العبودية لله رب العالمين، مبادراً بالتوبة النصوح، قبل نداء {المنادِ من مكانٍ قريب، يوم يسمعون الصّيحة بالحق ذلك يوم الخروج}.
في دلالة الابتداء بحرف القـاف وبالقسم بالقرآن المجيد
1- البيان العام : ق…! قاف..! بهذا الحرف القوي الشديد افتتح الله جل جلاله سورة >ق<! وفي ذلك ما فيه من التنبيه القوي على القضية المركزية لهذه السورة : حقيقة البعث بعد الموت، والنشور ليوم الحساب ! وقد بينا في مناسبة سابقة طبيعة الأحرف الافتتاحية لبعض سور القرآن.. وماتشير إليه -بغموضها المقصود- من عمق غيبي لهذا القرآن.. عمق لا طاقة للعقل البشري على استيعابه، وإنما له وعليه أن يتلقى ما كلف به من ظاهر هذا الخطاب الإلهي العظيم !… ومن ذا قدير على تلقي كلام الله؟ وعلى قدر ما يحدثه التلفظ بحرف القاف هكذا مفرداً، وما يثيره في النفس من فزع وانتباه عالٍ كبير؛ يستيقظ القلب ويلقي السمع ليشهد ماذا وراء هذا الغموض المخيف؟ وقبل الجواب يردف الخطاب قسماً إلهيّا عظيماً بهذا القرآن نفسه، بما له من مجدٍ عالٍ رفيع عند الله جل جلاله! فيقول تعالى : {ق والقُرآن المجيد} فتكتسب القاف الافتتاحية -بهذا السياق- معنى القسم أيضاً!(6)، فيثقل وقعها في النفس أكثر وأكثر؛ بما يجعل النفس تترقب خائفةً ماذا وراءها؟ وماذا وراء القسم بهذا القرآن المجيد؟ وماذا يحمل من أنباء ونُذُر؟ فيأتي الجواب شديداً رهيباً، على ما هُيّئت له النفس بهذه الافتتاحية القوية : {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب} صحيح أن هذه الآية ليست بجواب، لكنها بما تحمله من دلالة على إنكار الكفار لنذارة الرسول صلى الله عليه وسلم دلت على أن المقسم عليه معنى محذوف -لدلالة السياق عليه- هو إثبات ما ينكره هؤلاء الكافرون! تقديره : >إن البعث ليوم الحساب لحق!< أو >إن نذارة محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الحقيقة الرهيبة لحق!< أو >إن إعادة خلق الخلق بعد اندثار رميمهم في التراب، وبعثهم أحياء من جديد ليوم القيامة، لأمر واقع لا ريب فيه!<(7) بل لك أن تقول إن المقسم عليه هو كل ما تثبته هذه السورة من حقائق أخروية بإطلاق، من أولها إلى آخرها، مما لخصناه مركزا في مقدمتها! ولهذا وذاك وصف الله -جل ثناؤه- هذا القرآن الذي يحمل خبر البعث والنشور بأنه >مجيد<! {والقرآن المجيد} فالمجد في اللغة : الشرف، والعظمة، والعلو، والسؤدد، والأصل الكريم. قال ابن منظور : (مجَدَ (الرّجلُ) يمْجُدُ مجْداً، فهو ماجدٌ. ومجُدَ -بالضم- مجادةً، فهو مَجِيد. وتمجَّدَ. والمجْدُ : كَرَمُ فِعَالِه. وأمجَدَه ومجّده كلاهما : عظّمهُ وأثْنى عليه<(8).
فالمجيد إذن : صيغة مبالغة من اسم الفاعل >ماجِد<، وهي صيغة دالة على الرسوخ في المجد الأصيل، والمحتد الكريم، والشرف العريق، والغنى الوافر. ومن ثم كان مثلُ الأماجد في الناس كمَثل معدن الذهب بالنسبة إلى سائر الأحجار! أما مجَادَة القرآن فهي بمعنى شرف منزلته، وربانية طبيعته، ونفَاسَة معدنه، وعلو أصله، وعظمة شأنه، وهيمنة حقائقه، فهو الذي يعلو ولا يُعْلى عليه! إنه كلام الله رب العالمين! تكلم به سبحانه في الأزل من فوق سبع سماوات! فضمنه حقائق الخلق والتكوين، وخارطة القضاء والقدر، مما كان وما سيكون! وقصة خلق الإنسان من يوم خلقه إلى يوم موته، إلى يوم البعث والنشور! فهذا القرآن الناطق بهذه الحقيقة الكونية الكبرى قرآن مجيد مجيد..! ويكفيه مجداً أنه كلامُ اللّه المجيد جل جلاله! وأي شيء أرْفع قدرا، وأعزّ منزلةً من كلام مسطور عند رب العزة في اللوح المحفوظ، هناك فوق السماوات العُلَى؟ ووصف القرآن بالمجد، على هذه الصيغة المبالغة القوية : >المجيد< -على ما بينا لها من معنى- سيف مشهور في وجه كل من يريد التشكيك في حقائق القرآن، أو الحطّ من قدْره وقدْر مصدره الإلهي المجيد!
فريد الأنصاري رحمه الله تعالى
—-
1- اختلف المفسرون في مبتدأ قسم >المفصل< من القرآن الكريم، بين من يجعله من سورة >ق< ومن يجعله من سورة >الحجرات<، والراجح -إن شاء الله- ما ذكرناه أعلاه؛ لما ورد في ذلك من الآثار؛ ولِما لسورة >ق< من خصائص موضوعية وتعبيرية، تنطبق في الغالب الأعم على طبيعة سور المفصل، ذات الوقع الترهيبي، والنذير الأخروي، وهو ما رجحه العلامة ابن كثير رحمه الله، وإن كان مستنده في ذلك إنما هو حديث ضعيف. ونصه : عن أوْس الثقفي قال : سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يُحزّبون القرآن؟ قالوا : ثلاث، وخمس، وسبع، وتِسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزْب المفصّل وحْدة!<(رواه أبو داود وابن ماجة< وضعفه الألباني وغيره، كما في ضعيف سنني أبي داود وابن ماجة. وبتطبيق هذه الأعداد على سور القرآن مرتّبة تكون سورة >ق< أول المفصل. ن. تفسير سورة >ق< عند ابن كثير.
2- ن تفسير ابن كثير لأول السورة.
3- رواه البخاري.
4- ربما سمى بعضهم >المفصل< أيضا باسم >العربي<، كما يرويه الطبري في مقدمة تفسيره عن خالد الحذّاء (100/1). ولم أجد لهذه التسمية وجها ولا تفسيرا يخص المفصل بهذا اللفظ، فكل القرآن عربي!.
5- أخرجه أحمد في مسنده، والطبراني في الكبير، والبيهقي في شعبه. وصححه الألباني في صحيح الجامع، بينما حسّنه في السلسلة الصحيحة، وحسنه أيضا الشيخ شعيب الأرناؤوط في تعليقه على المسند. كما صحح الشيخ أحمد شاكر أحد سديه في تفسير الطبري. ن. مقدمة الطبري لتفسيره (100/1).
6- مذهب الإمام فخر الدين الرازي في تفسير الأحرف الافتتاحية بالقرآن الكريم، أنها تنبيهات للسامع من جهة، وأنها مُقْسم بها من الله جل جلاله على ما يذكر بعدها في السورة. ن. ذلك مفصلاً عنده في تفسير سورة >ق< بكتابه : >مفاتيح الغيبمجد<.