قد لايكون الأمر مبالغا فيه إذا تم الالتفات إلى أن صيرورة التفكير الإسلامي تؤكد أن المسلم يتمتع بعقلين : عقل شرعي، وعقل أدبي، وليس في ذلك أي عيب، لكن الإشكال هو حين يسعى بعض المنظرين والباحثين إلى محاولة إخراج العلاقة بين العقلين من دائرة العلاقات التعاضدية والتآزرية والتكاملية والتفاعلية المبنية على روح الاستقلال والتمايز والهدائية إلى دائرة العلاقات التضمنية والإلحاقية أو الإضعافية والتهميشية، وقد يصل الأمر إلى علاقة قائمة على الإقصائية بمسوغات تتلبس لبوسا شرعية.
وما شهدته حركة التنظير للفنون الإسلامية والأدب الإسلامي والعمارة الإسلامية يؤكد كيف أن الرغبة في تنميط تلك الفنون وفق رؤية إسلامية واضحة المعالم، محددة الصفات والمعايير إنما هو جهد من يريد أن يحكم العقل الشرعي في العقل الأدبي، ويجعل الثاني تبعا للأول ونسخة له، بينما الأصل أن يكون العقل الأدبي مهتديا بالعقل الشرعي لا مستنسخا له.
في ظل هذه الملاحظة المربكة، في تقدير صاحب المداخلة، فإن الورقة تقدم رصدا لمجموعة من القواعد التي يراها الباحث كفيلة بتحقيق نظر موضوعي في قضية منهج القصة القصيرة الإسلامية.
وتتمثل تلك القواعد في:
1- القاعدة الأولى: لا قاعدة لمنهج القصة الإسلامية تمثلا وإبداعا : فالحديث عن القواعد هو حديث عن المعايير والمبادئ والأحكام، ومن ثم، فإن ذكر لفظ “القواعد” من شأنه أن يوهم بأن هناك طريقا مرسوما سلفا بين يدي القاص، وعليه، إذا أراد أن يبدع نصا يستحق أن يوصف بأنه قصة قصيرة إسلامية، أن يلتزم بتلك القواعد، وإلا حكم على نصه بالخروج، قليلا أو كثيرا، عن منهج القصة الإسلامية بحسب مقدار التزامه بتلك القواعد. وهذا الأمر غير وارد، ولذلك، أقترح أن تكون أولى قواعد منهج القصة القصيرة الإسلامية أن لا قاعدة لها، درءا للالتباس، ومنحا الحرية الأدبية للقاص، فله وحده الكلمة الأولى في اختيار صياغة أنماط القصة الإسلامية وأشكالها وجمالياتها.
2- القاعدة الثانية: استصحاب الأصل الإباحي في الشكل الفني لمنهج القصة الإسلامية:
صراع مرير ونقاش طويل يروج في ساحة الأدب الإسلامي حول رتبة الأشكال الفنية في سلمية الجواز والإباحة والحرمة، وغلب على رواده، استجابة لثقافة سد الذرائع والأخذ بالأحوط، توهما لأمن أدبي في سياق تتفاعل فيه الثقافات والقيم والتجارب، سلوكُ الإنكار على من أخذ بالأشكال الحديثة أو ابتكر أساليب لم ينزل التراث بها من سلطان.
وتحرير القول في هذه الإشكالية يقتضي التذكير بالآتي:
> الشكل الفني التقليدي للقصة كان هو الإمكانية الوحيدة المتاحة في العصر الإسلامي الأول، كما أن هناك شكلا ثانيا، مثل إمكانية ثانية، هو الذي انتهى إلى الأمة في العصر الحديث.
> يقدم الخطاب القرآني أنماطا عديدة للقصة، يمكن تلخيصها في الأنماط الثلاثة الآتية:
أ- البناء الكامل: وهو بناء القصة بناء تاما من بدايتها إلى خاتمتها، مثل قصة يوسف عليه السلام التي قصت بدءا من طفولته إلى أن صار وزيرا عند عزيز مصر ولقائه بأبيه وإخوته.
ب- البناء الالتفاتي: ولتحديد دلالة البناء الالتفاتي، لابأس من التذكير بمفهوم الالتفات في الدراسات البلاغية، فهو يعني الانتقال من وضع زمني إلى آخر، مثل “انصراف المتكلم عن الإخبار إلى المخاطبة، أو الانصراف عن المخاطبة إلى الإخبار”(2).
وبتأمل قصص القرآن، يلاحظ أن بعضها قص بطريقة اعتمدت الالتفات والانتقال من الحاضر إلى الماضي، بشكل يخالف طبيعة الزمن الرياضي، ومن هنا يمكن أن نعرف البناء الالتفاتي في بعض قصص القرآن بأنه بناء يتقاطع فيه الحاضر مع الماضي، إذ يلتفت السرد إلى لحظات وأحداث ماضية خارج سيرورة الزمن الأول.
وقصة موسى في سورة طه نموذج لهذا البناء الالتفاتي، فقد ابتدأ الحديث عن موسى عليه السلام في الآية التاسعة، إذ أشار القرآن إلى رؤية موسى للنار، ثم تلقيه الوحي بجانب الوادي المقدس، وكلام الله له إلى حدود الآية السادسة والثلاثين، ثم يعود السرد، فجأة، إلى لحظة موغلة في ماضي شخصية موسى، وهي لحظة ولادته ووضع أمه له في التابوت مخافة أن يقتله أعوان فرعون، وذلك في قوله تعالى: {ولقد مننا عليك مرة أخرى، إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى، أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم، فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له}(ط : 27- 29). ثم يستأنف السرد لمخاطبة موسى وهارون من أجل دعوة فرعون إلى الإيمان، انطلاقا من الآية الواحدة والأربعين.
ج- البناء الحلقي: وهو راجع إلى مفهوم التصور التناسبي للقصص القرآني القائم على أساس أن السورة لا تستدعي من القصة إلا حلقة معينة تناسب السياق الحاف بها سابقا أو لاحقا، وهذا البناء الحلقي موجود في الكثير من القصص مثل قصة موسى وإبراهيم وصالح، ذلك أن القرآن يركز في كل سياق على جانب معين من جوانب القصة المسرودة، أو على حلقة مخصوصة من حلقاتها، استجابة لمتطلبات السياق الواردة فيه، وخدمة للجو العام الذي يمثل طابع السورة، واتساقا مع ما يناسب موضوع السورة ومحورها وأهدافها (3).
ومن عجب أن القدماء تنبهوا إلى هذا الجانب من قصص القرآن، ووصفوه بـ”اختلاف الصور والقوالب”. يقول ابن أبي الإصبع: “فإنك ترى القصة الواحدة التي لا تختلف معانيها كيف تأتي في صور مختلفة، وقوالب من الألفاظ متعددة، حتى لا تكاد تشتبه في موضعين منه، ولابد أن تجد الفرق بين صورها ظاهرا”(4).
والجدير بالذكر أن هذه الأنماط السردية والقوالب الفنية تدعو إلى البحث في أشكالها وأنواعها وجمالياتها، وتشجع على الغوص في دقائق أمورها بغية الوقوف على بعض الأسرار المعنوية والفنية الكامنة خلف بناءاتها المتعددة، إضافة إلى البحث في استنباطات فنية ومنهجية تفيد في التنظير للقصة القصيرة الإسلامية المعاصرة. والذي يهمنا، في هذا السياق التوصيفي لأنماط الصياغة القصصية في الخطاب القرآني، التدليل على أن القرآن، الخطاب الداعي إلى الالتزام بقيم وسلوكات وضوابط وقواعد، هو نفسه يقدم انفتاحية ملحوظة في التعامل مع الأشكال الفنية القصصية، مما يعتبر دليلا “شرعيا” على أن الأصل في الأشكال الفنية القصصية هو الإباحة.
> الأشكال تتطور بتطور الثقافات والأذواق الأدبية والاتجاهات النقدية، ومن ثم، فمن المباح للأديب أن يختار الشكل الذي يراه ملائما لأن يصب فيه تجاربه الإبداعية، ولم يكن الإسلام ليقف في وجه اجتهاد بشري ما في حقل هو، أصلا، من إنتاج بشر “يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق”، فقضية الاجتهاد مرتبطة، دينيا وأصوليا، بقضايا تشريعية، ومن تم، كان في العملية الاجتهادية جائز وغير جائز، أما في الحقل الأدبي فالمجال مجال تجارب إنسانية يجوز فيها استئناف التجديد والتطوير كما جاز فيها، ابتداء، الإبداع والتأصيل.
وأظن أن هذه القاعدة لم تأخذ بعد حيزها المناسب في طرائق التفكير الإسلامي، وما زلنا نلحظ تحرجا في التعامل معها في القضايا التشريعية العامة في المأكل والملبس والتجارة والمعاملات والعلاقات الدولية، ومن ثم، فلا ينتظر أن تتغير الأحوال الفكرية في ساحة التنظير الأدبي بالسهولة المتصورة، إن الأفكار تشاد على ثوابت، وإذا كانت الثوابت يتوهم فيها القوة والثبات والأصالة، فليس من السهل أن تنتقد الأفكار المبنية عليها والمؤسسة على وزانها إلا من خلال جهاد فكري متواصل.
- القاعدة الثالثة: مرجوحية الاحتكام إلى” ثوابت فنية” في سياق تشكل القصة الإسلامية: لا ينكر متتبع لحركية القصة القصيرة الإسلامية أنها في طريق التشكل والامتداد، وهذا يعني أنها تناضل لتكتسب ملامح لها في ساحة الإبداع الأدبي.
لكن بعض رواد الأدب الإسلامي ميالون إلى الشروع في التأصيل لخصائص القصة الإسلامية، ومنهم من عمل، وتحت تأثير منطق قياسي مخالف لجوهر العلة، باعتبارها من الشروط العلمية والمنهجية اللازمة للقيام بالقياس، على إسقاط خصائص التصور الإسلامي على خصائص القصة الإسلامية. ومعلوم أن عملية استخلاص الخصائص محتاجة إلى عمل استقرائي كبير، مهما كان حجمه فلن يكون إلا استقراء ناقصا، إذ الاستقراء الكامل مستحيل بين يدي ظاهرة أدبية تتخلق حينا بعد حين، وتتشكل عقدا بعد آخر، مما يحتم تأجيل أي اعتقاد بأن خصائص القصة الإسلامية قد كملت، دلاليا وفنيا، وعلى الأجيال الجديدة أن تبدع على وزان ما حققه جيل الرواد.
إن هذا الإجراء يعد قتلا لنمو القصة الإسلامية، فمعلوم أن ظاهرة القصة الإسلامية الحديثة مازالت فتية في الزمان والمكان، ومهما اعتبرنا بداياتها الأولى، فلن تتجاوز ستين سنة، ومن تم، فالأرجح أن يتم تأجيل “تقنين” خصائص أدبية ودلالية وفنية لظاهرة هي ماتزال في طور النمو والتشكل.
ومما يزيد الوضع تأزما، أن بعض الرواد من أهل النقد في ساحة الأدب الإسلامي، حين يستخلصون خصيصة ما، فإنهم يردون، بموجبها، خصائص أخرى قد تبدو لهم مخالفة لما استخلصوه من خصائص، فيقع إشكال لا مخرج ولا ملجأ منه إلا إلى التخلق بأخلاق الرصد المتأني، وتأجيل عمليات التقعيد والتوصيف الجازم، والصبر على الظاهرة الأدبية الإسلامية، في امتدادها الدلالي والفني والجغرافي، فعسى أن يكشف المستقبل عن أبعاد فنية أغنى وأعمق وأقدر على أن تدخل القصة الإسلامية ساحة الريادة العربية والعالمية المنتجة.
4- القاعدة الرابعة: القيم الفنية والدلالية في القصة الإسلامية متنوعة ومتعددة كتنوع المذاهب الفقهية وتعددها…
5- القاعدة الخامسة: خطأ الاجتهاد الفني مقبول، وهو أهون من خطأ التقليد والمحاكاة لأنماط فنية معينة…
6- القاعدة السادسة: العبرة بعموم المبدأ القائم على التنوع والاختلاف، لابخصوص إخفاق التجارب الفردية…
7- القاعدة السابعة: حاكمية تغير أشكال الخطاب الأدبي بتغير أحوال المتلقين…
8- القاعدة الثامنة: تقوية بناء الأدب الإسلامي يستدعي التمثل لا التقليد…
9- القاعدة التاسعة: درء سلبيات الوصاية على الأدباء، باعتباره موقفا سلبيا قائما على توهم الخوف على مصير الأدب الإٍسلامي، مقدم على جلب مصلحة صفاء الأدب الإسلامي…
10- القاعدة العاشرة: الثابت بالواقعية الحياتية كالثابت بالمثالية الإسلامية…
11- القاعدة الحادية عشرة: الأصل في الإبداع القصصي الإباحة الموضوعاتية…
هذه بعض القواعد التي نراها قادرة على فتح حوار جدي ومتواصل حول منهج القصة القصيرة الإسلامية، مع التأكيد أن الحركية الإبداعية القصصية الإسلامية التي تزداد نموا في السنوات الأخيرة، كما ونوعا، تمثل ميدانا خصبا للاستقراء والوقوف على ما تتميز به تلك القصة من ملامح وخصائص وقواعد.
والله الموفق للفلاح، ومنه النجاة مما يفوه به اللسان أو يخطه البنان.
د. محمد إقبال عروي(ü)
—–
(ü) مستشار بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت.
1 – نشير إلى أننا في الجريدة اكتفينا في القواعد من 4 إلى 11 بإيراد عناوينها لضيق المساحة، مع أن الدكتور محمد إقبال عروي بسط الحديث في كل قاعدة من القواعد المسطرة، مع اعتذارنا للقارئ، وشكرنا لتفهُّم أخينا الكاتب.
2 – ابن المعتز:” البديع”، ص: 116.
3 – د. أحمد أبو زيد:” التناسب البياني في القرآن “، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، ط:1، 1992، ص: 67.
4 -ابن أبي الإصبع:” بديع القــرآن”،تحقيق د. حفني محمد شرف،نهضة مصر،ط:1،ص: 290.