قراءة في نداء الضمير


-1- ما قبل الدراسة

جاء في خاتمة كتابي “الأدب بين الفلسفة والإسلام” هذه الخاتمة: اِتَّضح من خلال هذا العرض، أن الحضارةَ الغربية تقوم على الصراع بين عنصري كلِّ ثنائية على الشكل التالِي :
العقل/الحس، الجسد/الروح ، المجتمع/الفرد، الواقعية/المثالية، النخبة/العامة، السيد/العبد، المضمون/الشكل، الثبات/التحول، القواعد/الحرية، الموضوع/الذات، الوضوح/الغموض، (…)/(…)
وهذا الصراعُ قائمٌ على مستوى المجتمع، وعلى المستوى الفلسفي. والغَلَبَةُ لابد أن تكون لأحد العنصرين. فحين يغلب (أ) فإن قِيَمَهُ هي التِي تسود في المجتمع، وفي الفلسفة، وفي الأدب. وحين يَضْعُفُ يَسْتَوِلِي (ب) على السلطة، فيفرضُ قِيَمَهُ على المجتمع، والفلسفة، والفكر الأدبي. وحين يضعف يتولى الحكم من جديد (أ) ولكن في ثوب جديد. وبِهذا فإن هذه الحضارةَ تقمع المجتمعَ عامةً، والفردَ خاصة؛ لأن عليه أن يسير مع التيار، وإلا رفضته المدينةُ الفاضلة التي شَيَّدَتْهَا هذه الحضارة.
أما الحضارةُ الإسلامية فهي لا تعرف هذا الصراع؛ ذلك بأنّها تنظر إلى عنصري العقل والحس باعتبارهما زوجين. وهذا أَسَّسَتْهُ العقيدة، ذلك بأن الإسلامَ حاضرٌ في أي نشاط يقوم به المسلم، ولأن الأمرَ كذلك، فإن الأدبَ الْمُنْجَزَ في ظل هذه الحضارة، يتحول باستمرار، لكن في إطار ثابت، وهذا ما يفسر غياب المدارس الأدبية. ثَمَّةَ ثنائيةٌ هامة في الحضارة الغربية، وهي:
الذات والموضوع
الأنا والآخَر.
فالذات/الأنا هي دائما في صراع مع موضوعها/الآخَر. بينما هما في الحضارة الإسلامية متكاملان، والذات تدخل في زواج مع موضوعاتِها المتعددة؛ أي: إن الأنا في حضارتنا الإسلامية تتكامل وذوات الآخرين.
يقدم هذا العرضُ، بطريقة غير مباشرة، إجابةً عن ماهية الأدب الإسلامي، كما ندعو إليه بِمجلة المشكاة. فهو الأدبُ الخاضع لروح حضارتنا الإسلامية، كما وضحنا في ثنايا هذه الدراسة.
تَحدثنا عن أهمية الْمُخَاطَب في البلاغة العربية، وبَيَّنا أن النص الدينِي يُولي اهتماما كبيرا لِهذا الْمُخَاطَب ؛ لأن الرسالة جاءت من أجله. فَلابُدّ أن يَتَحَوَّل أسلوبُ الخطاب تبعا للمخاطَب المستهدف. وكان الشعرُ العربي الْمُنْجَزُ في ظل حضارتنا، قائما على البلاغة الدينية نفسها. ذلك بأن أغراضَ الشعر العربي، تتطلب التمسكَ بِهَذه البلاغة. فكان النقدُ العربي يقدم للشاعر القواعدَ التِي تساعده على تَجويد صناعته؛ لتنال قَبُولَ مَنْ تُوَجَّهُ له. وهذا واضح في العمدة خاصة، حيث يقدم ابنُ رَشِيق سُبُلَ المدحِ، وهي كثيرة. فَلِمَدْحِ الْمَلِكِ سَبِيلٌ غَيْرُ سبيلِ مَدْحِ السُّوقَة1….
لكن الشعر العربي، في العصر الحديث، عرف تحولاتٍ كبرى، أَهَمُّها تَخليه عن أغراض الشعر المعروفة، وأصبح يهتم بذات الشاعرِ في علاقتها بِذَاتِها، أو في علاقتها بالآخر. ولهذا لَم تَعُدْ هناك حاجةٌ إلى ربط بلاغة النص الشعري بالمخاطَب، وإنّما أصبحت الحاجة إلى ربط النص بالتجربة. فالتجربة هي المتحكمة في شكل النص، وبلاغته. ويتحقق البيانُ حين ينسجم النصُّ الشعري، بِمعناه ومبناه، والتجربةُ الْمُعَبَّرُ عنها به.
النص الذي سأدرس هو تطبيق لبعض ما جاء في هذه الخلاصة
-2- الدراسة
اخترت أن أدرس نصَّ صالح خرفي نداء الضمير من خلال مكوناته الجمالية. ويعود سبب هذا الاختيار إلى إعجابي بالقصيدة التي استمتعتُ بها وأنا تلميذ. حاولت تقليد شكلها؛ لأن هذا الشكل هو الذي أخذ بلبي، لهذا وأنا أقدم هذه القراءة فإنما أعود من خلالها إلى طفولتي، ولتحقيق هذا ستتم القراءة العاشقة من خلال :
- العنوان
- النص في علاقته بالعنوان
- شكل النص الشعري
- الخاتمة : الشاعر صالح خرفي
نص القصيدة
يَا حبيبي. ذكرياتُ الأمسِ لم تَبْرَح خيالي
كيف تغفو مقلتي عن حبنا عبر الليالي
لا تلمني إن ترامت بي أمواج البعاد
لا تلمني لم يزل يخفق للحب فؤادي
غير أن القلب هزته نداءات شجيه
صَعَّدَتْهَا في دجى الليل قلوب عربيه
وجفون مسها الضيم فغصت بالدموعِ
فاستطارت شعلة الحب لهيبا في ضلوعي
وتراءت لي وراء الصوت أعلامُ البشائر
فََوَهَبْتُ الحب قربانا وبايعت الجزائر
ياحبيبي ربعنا بالأمس ربع الذكرياتِ
إنه مأوى ذئاب كدرت صفو الحياة
كان عشا للتناجي كان أنسا ونعيما
ثم أمسى للرؤى الغضة نارا وجحيما
ياحبيبي كم فرشنا الربع ورودا وزهورا
كم بنينا من هوانا لأمانينا قصورا
فتعالت صرخة الرعب بأشباح المنايا
فاستحال الورد شوكا ودماء وضحايا
ياحبيبي لم أخن عهدي ولا خنتُ هوايا
غير أن الحب أمسى ثورة بين الحنايا
لك حبي في ذرى الأطلس في تلك الروابي
فهناك الأفُق الرحب لأحلام الشباب
لك حبي يوم تعلو بسمة النصر ثرانا
ويذيب الليل والآلام فجر من دمانا
سوف ألقاك مع النصر وأفراح البشائر
سوف نبني عشنا في ظل تحرير الجزائر
1- العنوان :
سننظر إلى عنوان هذا النص الشعري من زاويتين : العروض، اللغة.
نداء الضمير: جاء هذا العنوان على مستوى العروض على بحر المتقارب.فهل يعني هذا أن النص الشعري الذي يحمل هذا العنوان من البحر نفسه؟ هذا ما يتوقعه المتلقي. لكن مفردات هذا العنوان لا تشكل بيتا لا تاما ولا مشطورا ولا مجزوءا. إنها كائن عروضي فقد بعضا من أجزائه.
إذن يحدثنا هذا العنوان، على مستوى العروض عن الفقد. فهل هذا هو مضمون النص الشعري؟ لننظر الآن المستوى اللغوي بما أن العنوان موزون فهل سيتم التصالح بين البنيتين : اللغوية والعروضية جاء العنوان مؤلفا من اسمين يشكلان جملة ناقصة، جملة فقدت شيئا أساسيا. لننظر في وظيفة مكونات التركيب :
يتألف هذا العنوان من مبتدإ بخبر محذوف، أو، من خبر بمبتدإ محذوف. هذا يعني أن التركيب جملة اسمية تامة. لكن الإيقاع العروضي باعتباره قوة جعل التركيب يُحضر المسند ويغيِّب المسند إليه أو في قراءة يُحضر المسند إليه ويُغيِّب المسند. فالعنوان إذن يقوم على عنصر حاضر يبحث عن عنصر تتحقق الجملة / الحياة به. هل لهذا علاقة بما يقوله النص؟
2- النص في علاقة بالعنوان:
يبدأ الشاعر نصه بنداء الحبيب : هل هذا الحبيب امرأة ؟ أي : معشوقة ؟ أم هل هو الأم ؟ الأخت ؟ الأخ؟ الأب؟ الصديق؟..دائرةُ الحبيب واسعة تشمل كل ما يمكن أن يُنعت في ثقافتنا بالحبيب. بعد صيغة النداء يأتي الموضوع في صيغة نكرة للدلالة على أن الشاعر لا يحدثنا عن ذكريات معينة، وإنما كلُّ ذكرياته هي موضوع هذا النص. يتبين من خلال هذا الموضوع أن المحبوبين منفصلان انفصال المسند عن المسند إليه، أو انفصال القسيم العروضي المشكل للعنوان عن أقسام البيت الغائبة. أي كل حبيب يعيش بعيدا عن الآخر. لكن كل واحد يعيش في ضمير الآخر.
إذا افترضنا أن المنادى هو المعشوقة فإن هذا المدخل يوحي بأننا أمام غزل تقليدي يدور حول الهجر. وأغلب غزلنا العربي قائم على هذا. فالشاعر إذن يعيد بنصه هذا بنية شعرية مألوفة في تراثنا الشعري البدوي. طبعا نقول هذا ونحن نفترض أن المنادى امرأة. لكن يجوز أن يكون المنادى هو الوطن، الوطن الذي يضم الأهل والأحباب. إذا افترضنا أن المنادى هو الوطن فهل هذه الذكريات مرتبطة به، أو مرتبطة بمحبوب يضمهما وطن واحد ؟. المهم أن الشاعر/ العاشق يعيش بعيدا إما عن الأحباب (المنادى : امرأة…) وإما عن الوطن. هل هذا البعد اختياري؟
يقول الشاعر: “أمواج البعاد”. إضافةُ البعد إلى الأمواج دليل على أن هذا البعد هولٌ، بحرٌ رهيب..وهذا يعني أن ثمة مكابدات.لكن اَلدََّْْوْرَ الأول من النص ينتهي بإعلان هام: إن الشاعر من خلال هذه المكابدات يَهَبُ حبه قربانا للجزائر؛ بل يبايعها بيعةً فيها قدسية؛ لأنها تحيلنا على بيعة الأنصار النبيَّ محمد صلة الله عليه وسلم. إذن ندرك من خاتمة هذا الدَّوْر الأول أن بالأمر عشقا للوطن وللأحباب القائمين بهذا الوطن.
يبدأ الدور الثاني من هذا النص بالنداء من جديد، والمنادى دائما واحد. لكن هذا النداء سيتكرر في هذا الدور ثلاث مرات. الموضوع بعد النداء نكرة أضيفت إلى ضمير المتكلمين. فالربع المتحدث عنه ربع يجمع الشاعر بآخر أو بآخرين. هذا الربع الذي يجمع الأحبة بأرض الوطن أصبح مأوى للذئاب. إذن أصبح الربع غابة يتسكع بأرجائها الوحش. هذا الربع كان عشا، والعش مأوى يضم زوجين: الشاعرَ وحبيبته. إذن نحن أمام ذكرى حب ليس فيه هجر كما في الغزل في شعرنا القديم، وإنما تدخلت الذئاب، وأبعدت الشاعر عن أهله. هذا العش فرشه العاشقان وردا وزهورا، وملآه أحلاما. لكن الوحش حوَّل الورد أشواكا. يصرّح الشاعر إذن بأنه ما يزال على العهد وأن هناك أملا في أن يلقى الحبيب / العش / مع النصر، أي مع تحرير الجزائر.
إذن هناك علاقة تجمع مضمون العنوان ومضمون النص الشعري :
- نداء الضمير : قسيم ينقصه أقسمة ليشكل بيتا(نقص).
- نداء الضمير : مسند لكن المسند إليه محذوف (نقص). مسند إليه لكن المسند محذوف (نقص).
- النص الشعري : الشاعر حي لكن ينقص هذه الحياة الوطن / الحبيب.
إذن تقوم بنية العنوان عروضا وتركيبا، وبنية النص على: حاضر وغائب، لكن الغائب موجود في ضمير الحاضر. الحاضر والغائب ثنائية. عنصران لا يتصارعان وإنما يتكاملان، إنهما يشكلان الزوج. هذه الثائية حاضرة على مستوى الإيقاع.
3- الشكل الشعري للنص :
سننظر في شكل النص وفي عروضه
أ- ما شكل هذا النص ؟
ينتمي هذا النص الشعري إلى نمط شعري معروف في تراثنا الشعري العربي مرتبط بالغناء، إنه الشعر الدَّوْري، ومن أنماط هذا الشكل الموشحات والمسمطات، لكن شكل هذا النص ليس موشحا ولا مسمطا، وإنما هو شكل يقوم على دورين غير متساويين، ويقوم كل دَوْر على مزدوجات des distiques: الدور الأول : 4 مزدوجات +1، الدور الثاني : 7 مزدوجات +1. وكل دور ينتهي بمزدوج يقوم على قافيتين ثابتتين هما: الجزائر والبشائر. وكأنهما لازمة النشيد. إذن لفظة الجزائر تستدعي لفظة البشائر، وهذا منسجم وروح عنوان النص الشعري وعنوان المجموعة الشعرية التي منها هذا النص. لننظر في ما يلي :
نداء – الضمير
أطلس – المعجزات
الجزائر – البشائر
الملموس – الخفي
الحاضر – الغائب
جاء في الدور الأول :
وتراءت لي وراء الصوت أعلام البشائر
فوهبت الحب قربانا وبايعت الجزائر
وجاء في الدور الثاني :
سوف ألقاك مع النصر وأفراح البشائر
سوف نبني عشنا في ظل تحرير الجزائر
لا تتحقق الحياة إلا بالحاضر والغائب. الجزائر باعتبارها حاضرا، والبشائر باعتبارها حلما غائبا لكنه سيتحقق لأن الغائب هو في ضمير الحاضر. ولهذا حرص الشاعر في نصوص أطلس المعجزات على ربط الكلمتين في القوافي. ولعل الظاهرة مست شعراء جيله. يقول مفدي زكرياء :
صدق الوعد فاطفََحي يابشائر
ودنا السعد فامرحي ياجزائر
ويقول صالح خباشة :
شعب يمور بالجهاد ثائر
لا بد يوما للتحرير صائر
في القدس في الجنوب في الجزائر
أعلامنا خفاقة البشائر
وظلت هذه البنية القافوية حاضرة حتى بعد استقلال الجزائر كما في قصيدته +أدعوك يا أملي؛ حيث جاء آخر النص :
للحب عدنا للمنى عدنا لأفراح البشائر
عدنا لنرعى عشنا في ظل حرية الجزائر
ب- العروض :
قلنا: إن عنوان هذا النص على بحر المتقارب، وقلنا: إن القارئ ينتظر أن يكون النص الشعري من البحر نفسه. لكن قراءة النص أكدت أن وزنه يختلف عن وزن العنوان، لكن بينهما علاقةً إيقاعية، فتفعيلة العنوان هي نفسها تفعيلة النص لكن أولها ينقصه سبب خفيف. إذن علاقة العنوان بالنص عروضيا هي علاقة فقد. فالفقد بنية عميقة، أفصحت عنها كل مكونات النص، لهذا جاء البيت فاقدا جزءا منه، تعبيرا عن فقد الشاعر محبوبَه :
الحبيبة/ الوطن
- البيت المجزوء: قُطع شيء منه
- بيت الشاعر: قطع منه حبيبه
4- الخاتمة :
تحدثنا عن العنوان وعن النص وشكله، ولاحظنا أن هذه المكونات منسجمة في ما بينها كلها تعاني من ضياع شيء. هذا الانسجام هو ما جعل هذا النص مبينا، كما وضحنا ذلك في كتابنا وفي خاتمته التي صدرنا بها هذا المقال.
أد. محمد علي الرباوي
——-
1 – العمدة 2/771 وما تلاها

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>