إن العلم في عهد مراهقته، والفلسفة والآداب التي أقامت صرحها عليه كانت أسيرة اعتقاد خاطيء يقوم على افتراض أن كل ما يجهله العلم أو يتجاهله لا وجود له على الإطلاق، وهو موقف ساذج لا يزال يتشبث به كثيرون من أدعياء العلمية في بلادنا، أولئك الذين أخذوا على عاتقهم، أو حملوا بشكل أدق، مهمة إعلان الحرب على الغيبيات، دون أن يدركوا أن المواقع الأكثر حداثة لمسيرة العلم الجاد قد كشفت عن حقيقة أن المادة نفسها تحمل في تراكيبها بعداً غيبياً.. إن هؤلاء ليذكّرون الإنسان بالنعامة التي إذا ما دهمها خطر ما دفنت رأسها في الرمال معتقدة -بنوع من خداع الذات- أنها ما دامت لا ترى الخطر فإنه ليس بموجود.. وتكون النتيجة أن تضيع المسكينة في بطون السباع. إنهم يعتمدون موقفاً متشنجاً غير علمي ويصرّون على عدم بذل المزيد من الجهد لتفّحص بنية العالم، والتنازل -ولو قليلاً- عن مواقف سبق وإن اتخذت في بيئات القرن التاسع عشر.
إن هذا يذكرنا -من جهة أخرى- بأسطورة المدينة المسحورة التي تحكي لنا عن رجل يدخل مدينة كان أحد السحرة الأشرار قد قضى بتوقف الحركة فيها، وظل أحياؤها بعد ذلك السنين الطوال، جامدين كالأصنام وفق الحالة التي كانوا عليها يوم حلّت بهم لعنة السحر. وبدلاً من أن نحاول اعتماد سحر أقوى لإعادة الحركة والحياة لهذه المدينة المنكودة، نقرأ مزيداً من الشهادات التي تصدر عن أفواه علماء، لا فلاسفة أو أدباء أو اقتصاديين وزعماء حركات ثورية! عن أن العالم ليس بنية مادية صمّاء وأن ما وراء المادة المنظورة عوالم وأكوان! يقول شرودنجر في ختام رسالته (ماهية الحياة) : “أودّ أن أوضح في هذا الفصل الأخير بالإيجاز، أن كل ما علمناه من بناء المادة الحية يوجب علينا أن نكون على استعداد لأن نراها عاملة على مثال لا يمكن إخضاعه لقوانين الطبيعة العادية، وليس ذلك على اعتبار أن التركيب هنا يخالف كل تركيب درسناه في معامل العلوم الطبيعية” ويقول ليكونت دي نوي : “.. إن الإنسان الأمين الذي تنطوي نفسه على الشوق العلمي لا يلزمه أن يتصور الله (سبحانه) إلاّ كما يلزم العالم الطبيعي أن يتصور الكهرب، فإن التصّور في كلتا الحالتين ناقص وباطل، وليس الكهرب قابلاً للتصّور في كيانه المادي، وإنه مع هذا لأثبت في آثاره من قطعة الخشب”.
وكان رسل والاس في شيخوخته يعتقد أن الكون المادي إنما هو مظهر للكون الروحاني، وأن في الكون الروحاني أنماطاً من العوامل الفعالة، من القوى العليا إلى الأرواح الكامنة في الخلايا الحية. وربما تعذر إثبات هذه التقديرات بالبرهان القاطع، ولكنها فيما نراه أصلح لتوضيح الوقائع من أي تقدير يأخذ به الماديون”. ويعوّل سير آرثر ثومسون، أستاذ التاريخ الطبيعي بجامعة أبردين، كثيراً على تخفف الكثافة المادية واقترابها من (اللا موزونات) أي المعاني التي لا توزن كالفكر والعاطفة. ويقول إننا في زمن شفّت فيه الأرض الصلبة وفقد فيه الأثير كيانه المادي، فهو أقل الأزمنة صلاحاً للغلوّ في التأويلات المادية”.
وفي جوابه للسائلين عن عقيدته قال: “إذا كان العلم صيغاً وصفية، وكان الدين في جانبه العقلي تفسيراً علوياً، فلا موجب للتعارض الحاسم بينهما”. وقال روبرت بروم عضو الجمعية الملكية الإنكليزية في مطلع الخمسينيات: “من نحو عشرين سنة اهتم بعضهم بأن يبحث عن الآراء المادية التي شاعت بين الدوائر العلمية، في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، هل لا تزال على شيوعها؟ أم أن الآراء الأخيرة عن بناء المادة ومذهب النسبية وعلوم الحيوان قد عدلت على صورة من الصور فلسفة رجال العلم في القرن العشرين؟ فتبيّن أن فئة مدهشة -بنسبة عددها إلى سائر أعضاء الجمعية الملكية- قد قررت بأسلوب واضح أنها تؤمن بعالم روحاني وعناية ربانية مهيمنة، وأن كثيراً منهم يعتقدون بقاء الشخصية بعد موت الجسد”. فئة مدهشة من العلماء تقرر بأسلوب واضح أنها تؤمن بالروح، وبالعناية الربانية المهيمنة وبالخلود.. وهناك، غير هذه الشهادات، عشرات وعشرات..
د. عماد الدين خليل