لن تقوم لسفينة المجتمع قائمة إلا باستتباب الأمن على ظهرها، الأمن بجميع أنواعه ومستوياته: أمن تسلم فيه الأجسام من غائلة الجوع والأمراض، وتسلم فيه الأرواح من غوائل الإلحاد والإزهاق، وتسلم معه النفوس من غوائل الرعب والقلق، وتسلم معه شبكة العلاقات من محاليل الضغائن والأحقاد، ولئن كانت هذه الأشكال جميعها أو واحد منها مما ينغص الحياة على ظهر سفينة المجتمع ويسمم أجواءها، ويهدر فيها نعمة الأمن والتآلف والسكن، فإن سلطان الرعب بامتياز، هو ما يملكه العدوان المباشر على الأرواح و الأعراض والأموال، والذي ينتفي معه أدنى إحساس بمعنى الحياة، إذ لا معنى للحياة بغير أمان، ولتأكيد هذه الحقيقة وترسيخها في الأذهان، امتن الله عز وجل على عباده في سورة قريش بنعمة الإطعام من الجوع والأمن من الخوف، بقوله سبحانه: {فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} ولقد اقتضت مشيئة الله تعالى وحكمته أن تصرف هذه النعمة الكبرى من خلال عزم البشر وتوجههم الصادق لترسم منهج الله عز وجل وتطبيق شرعه الحكيم في شؤون الحياة كلها، فذلك هو الشرط الأوحد لانتظام سيرها وظهور كنوزها وأسرارها، والذهاب بعيدا في مدارج الرقي الحضاري والإنساني، الذي ينطلق معه الكيان البشري في رحلة الأبد بطاقة الإيمان، ويحلق بأجنحة الحق والأمن والعدل والإحسان. ولقد جربت البشرية، ولا تزال، صنوف العذاب وألوان الشقاء، ودخلت في أمواج عاتية من الفوضى والضياع، نتيجة تنكبها صراط الله العزيز وإعراضها عن أمره سبحانه وتعالى بلزوم شرعه وعدم تعدي حدوده، ومن عجب أنها على الرغم مما نالها من مآس وجراح، لا تزال تمعن في الشرود والارتكاس، مما يدل على أنها قد فقدت بوصلة التقدير والإحساس، فراحت تستمرئ الدخول الطوعي -أو القهري نتيجة تلبس شياطين الإنس والجن بها- في دوامة عبثية لتعذيب الذات والغير على حد سواء، فالجريمة هي سيدة الموقف، فأينما وليت وجهك على أطراف سفينتنا المكلومة داهمتك لوحة قاتمة من الدماء والأشلاء، وصك سمعك صراخ الثكالى والأرامل والأيتام، ومزق كبدك أنين المفجوعين بسبب ضياع الحرمات والأعراض، ولكن بدون مصيخ ولا صريخ، إلا من استجابات ثقيلة متراخية تولد ميتة، بسبب خلوها من الحكمة، بل لاستنادها إلى الجهل الفاضح بحقيقة الوجود الإنساني على وجه هذه الأرض، فما يتخذ من إجراءات في مواجهة الجريمة المستفحلة، والمعربدة في كل شبر من سفينة المجتمع، لا يعدو أن يزيد اللوحة قتامة، والمشهد المأساوي عبثية واستهتارا، بسبب الإسراف في المجاهرة بالعصيان، والتمرد على شرع الله الحكيم الذي فرضه سبحانه وتعالى لقطع دابر الجريمة والمجرمين، بل لبناء مجتمع آمن، تمثل فيه الجريمة الشذوذ الذي لا يلبث أن يتوارى إزاء سلطان الشرع الحكيم، ورسوخ شبكة القيم واستحكامها في النفوس، فما معنى أن تتراكم ملفات الدعاوى ضد المجرمين على مكاتب القضاة في المحاكم بالمآت؟
وما معنى أن تغص السجون بعتاة المجرمين الذين لا يخرج أكثرهم من غياهبها إلا للعودة إليها بقلوب أشد قسوة، وبوجوه أكثر صلافة واستهتارا، فيتشكل منهم مافيات رهيبة ، تخطط لمزيد من التخريب، ومزيد من الإجرام الذي تتحول معه حياة الناس إلى جحيم لا يطاق، جراء إمساك تلك المافيات بزمام المبادرة، والضرب بقوة في أي وقت شاءت وفي أي مكان، حتى إن توقع التعرض للعدوان أصبح هاجسا مؤرقا لكل مواطن، لفرط ما يطرق سمعه من أخبار عن الجرائم النكراء، التي سقط ضحيتها أرواح عزيزة، وانتهكت جراءها أعراض غالية، فلا يمر يوم دون أن تنغص مجالس الناس، وتصك مسامعهم، وتروع قلوبهم بتلك الأخبار التي أصبحت تشكل مادة دسمة تقتات عليها فئة من الجرائد التي كادت تتخصص فيها. وما معنى أن يستنزف قسم كبير من جهود الطواقم الطبية في المستعجلات الجراحية للمستشفيات، في إنقاذ ضحايا الإجرام المتبادل الذي تضج به كثير من البؤر المهملة والزوايا المنسية، بل والذي أصبح يقترف جهارا نهارا في مواقع معاش الناس ونشاطهم اليومي، ويكون ذلك على حساب الحالات الاستعجالية العادية التي تتقاطر على تلك المستعجلات صباح مساء، لأن الأسبقية تعطى للبطون المبقورة والرؤوس المهشمة والأطراف المبتورة، وما أكثر ما يكون أصحابها من الضالعين في الإجرام المتبادل الذي تؤجج نيرانه ما يزخر به المحيط الموبوء من المواد الحافزة لغرائز العدوان، من خمور ومخدرات وحبوب مهلوسة، أصبحت في متناول جميع الفئات داخل المجتمع.
أليس من قبيل السخرية الحديث عن التنمية وسط هذا الخضم المتلاطم من الإجرام الذي تذهب فيه الأرواح والأعراض والأموال سدى، والذي تحول إلى نزيف جامح موصول؟ إلى متى يستمرئ القيمون على هذا الوطن العزيز هذه اللعبة المقيتة التي تتمثل في “الغَزْلِ” ونقض الغزل، أفلا يستحيون من الله العزيز الجبار الذي يخاطبهم بقوله سبحانه: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا}، وبدلا من الوقوف عند هذا النهي الرباني، والسعي الصادق لتصحيح المسار وفق شرع الله الحكيم، يمعن هؤلاء في غيهم، وكأنهم قد بيتوا أمر سوء، وأزمعوا مواصلة الخصومة مع منهج الخلاص الذي يحقق الأمن والسلام، ويزيح غاشية الحزن والكآبة والشقاء من على وجه الوطن، ويعيد إليه البسمة والأمان. ليعلم القيمون على هذا الوطن، أن كل ما يزهق من أرواح لرجال ونساء وأطفال أبرياء، وما ينتهك من أعراض، وما يهدر من مال عام، وما يترتب عن ذلك من جراح ومعاناة وآلام، أن كل ذلك في أعناقهم، وسيسألون عنه في الموقف العصيب بين يدي العزيز العلام، فهل من توبة نصوح تعيد الأمر إلى نصابه والحق إلى أصحابه، وتطهر سفينة المجتمع المكلوم من جيوب الإجرام، وتسوقها إلى بر الأمن والأمان؟
د. عبد المجيد بنمسعود