رحل عنا الأستاذ الكبير الدكتور علي الغزيوي أستاذ الأدب والنقد الأندلسي، وخلف وراءه تراثا علميا زاخرا أغنى المكتبة العربية الإسلامية، ومن جملة الأمور التي اهتم بها أستاذنا الكبير -تغمده الله عز وجل برحمته- التأسيس للمنهج الإسلامي في النقد الأدبي، وقد صدر له في هذا السياق كتاب: “مدخل إلى المنهج الإسلامي في النقد الأدبي ومسألة التأسيس”، وفي ما يلي قراءة في مضامين هذا الكتاب وقضاياه:
< أولا : لماذا الحاجة للمنهج؟
لكي يجيب عن هذا الاشكال انطلق الدكتور علي لغزيوي رحمه الله بالوصف السريع للمراحل التي أوصلت المثقفين والطلاب اليوم إلى استعارة المناهج الغربية واعتماد تطبيقها على أدبنا قديمه وحديثه، بل أحيانا محاكمته استنادا إلى تلك المناهج الدخيلة، وأن تراث الأمة الإسلامية خالٍ من شيء يسمى منهجا أو مناهج، واستهلاكنا الطويل الأمد للمناهج الغربية الغريبة، التي رسختها أجيال تلقت العلم في ديار الغرب ورسّختها بدورها في من يتولون اليوم مزاولة التدريس والتثقيف.
وانطلاقا من إحساس الكاتب بهذا الإبعاد المتعمّد رأى أن يسهم في التأصيل لمنهج بديل يعكس شخصية المسلم؛ هو المنهج الإسلامي في النقد الأدبي الذي تطلبته دواع منها:
- ضرورة التمييز بين الإسلامي والدخيل في مختلف مجالات الحياة.
- الوعي بعدم ملاءمة كثير من المناهج الغربية في التعامل مع التجربة الإسلامية المعاصرة في الإبداع الأدبي.
وينبّه إلى أن الجهود الواعية والمنظمة لكل من سيد قطب، ونجيب كيلاني، وعمادالدين خليل ومن سار على نهجهم رائدة في مجال الأدب الإسلامي؛ تنظيرا وتطبيقا، بهدف رسم مواصفات المنهج الإسلامي في النقد الأدبي.
ومن هنا تكتسب هذه المقدمات عند المؤلف شرعيتها في الدعوة الملحة إلى تبني منهج إسلامي للنقد الأدبي، ومحاولة رصد خيوطه في النظر إلى الفنون والآداب. ورغم صعوبة تحقيق ذلك لبعد مناهجنا الدراسية عن إدراج نماذج من الأدب الإسلامي الدسمة في الفن والأخلاق والتشريع ضمن مقرراتها، ولتغلغل المناهج الأجنبية في أذهان الكاتبين، وتكريس الإعلام الأجنبي ذلك التغلغل وإبراز جاذبيته، فإن الكاتب يؤمن بالتحدي، فيرى كما رأى سيد قطب قبله ضرورة الإقلاع عن النظر ((إلى أنفسنا وإلى سوانا بعدسة صَنَعتها أيد أجنبية عنا، أجنبية عن عقيدتنا وتاريخنا، أجنبية عن مشاعرنا وإدراكنا، أجنبية عن فهمنا للأمور وإحساسنا بالحياة وتقديرنا للأشياء))، وأن نثق بما يقدمه الإسلام من رؤية جديدة للحياة تستثمر في مجالات الآدب والفن والنقد وغيرها.
< ثانيا : المنهج الاسلامي في النقد أية منطلقات وأية أسس؟
ينطلق الدكتور رحمه الله في بيان معالم هذا الإشكال من خلال إظهار موقف الاسلام من الأدب عموما ومن الشعر خصوصا ثم إظهار موقف الصحابة والخلفاء الراشدين من الشعر والشعراء. > ففيما يخص النقطة الأولى ينطلق من قناعته بأن المنهج الإسلامي في النقد الأدبي ليس منقطع الجذور، بل إن فكرته نبتت بِذْرتها مع إشراقة نور الإسلام، ومن ثمّ فإن استخلاص مقومات هذا المنهج تكتسي أهمية خاصة؛ لأنها تهدف إلى تصحيح أو تعديل كثير من الأحكام التي تصدر من مواقف جاهزة أو تعتمد الإسقاط والتقليد.
فالمنهج الإسلامي في النقد قد ظهرت معالمه الأولى في صدر الإسلام بما عُرف بموقف الإسلام من الشعر، من خلال المبادئ النقدية ذات القيمة التوجيهية التي ظهرت مع هذا الموقف، وهي مرحلة التأسيس لما سيأتي.
والبحث في موقف الإسلام من الشعر ينطلق عند الكاتب من ثلاثة محاور تتميز بتكاملها، وبوحدة المنبع والهدف في الوقت نفسه، وهي:
- موقف الإسلام من الشعر كما حدده القرآن الكريم: والحديث عن هذا الموقف من زوايا متعددة، في مقدمتها: ما فهمه بعض العرب حينذاك من نفور الإسلام من الشعر. ما يتصل بما سمي بنظرية ضعف الشعر في صدر الإسلام. وما يتصل بموقف الإسلام من الشعر والشعراء باعتباره موقفا نقديا يتضمن توجيهات وأحكاما واضحة، ترتكز على معايير ومقاييس نابعة من روح القرآن وتعاليمه.
- موقف النبي صلى الله عليه وسلم من الشعر والشعراء: وهو نابع من روح القرآن الكريم فقد أُثرت عنه أقوال وأحكام كثيرة تتعلق بالشعر والشعراء، وهي ثلاثة أصناف:
- ما يتعلق بتشجيعه للشعراء المسلمين في سبيل الدفاع عن العقيدة. وما يتعلق بموقفه من الشعر عموما، ويظهر في موقفين مختلفين: موقف الرفض والنفور، وموقف الرضى والاستحسان، وقد أُثرت عنه أقوال تجمع بين النفور والاستحسان.
- ما يتعلق بموقفين مختلفين من شعر الجاهليين، موقف الاستحسان من الشعر المتفق مع الخط الإسلامي، وموقف النفور من الشعر المختلف عن ذلك الخط. وما خلص إليه الكاتب هنا هو اتفاق مواقف النبي صلى الله عليه وسلم مع موقف القرآن، وأنهما يرسمان نهجا إسلاميا للشعر نظما ورواية.
> أما النقطة الثانية في التأصيل فتتعلق بموقف الصحابة والخلفاء الراشدين من الشعر والشعراء: ومواقف هؤلاء – وهم جهابذة الفصاحة والبلاغة – تعتبر امتدادا للمواقف السابقة، وقد حاول الكاتب من خلالها إبراز معالم المنهج الإسلامي في النقد الأدبي، انطلاقا مما أُثِر عن عمر بن الخطاب خاصة، وهو أعلم الناس بالشعر كما وُصف، ومن خلال ما أصدره من أحكام تخصّ الشكل والمضمون معا، مكّنت الكاتب من تلخيص ممارسته النقدية في أمرين متكاملين: مواقفه من الشعر والشعراء، وأحكامه وآراؤه في الشعر. وبهذا -وبغيره- يكون الكاتب قد عرض أهم المعطيات الكبرى للنظرية النقدية الإسلامية في مرحلة صدر الإسلام، فماذا عن طبيعة المنهج والنظرية والمعيار عنده؟
< ثالثا : ما علاقة المنهج بالنظرية؟
وقد حدّد الكاتب طوابع الممارسة النقدية في صدر الإسلام وتجلت عنده في: الدعوة الواعية إلى الالتزام بمفهومه الإسلامي الصحيح، وضوح المعيارين: الخلقي والفني، وعدم اقتصار الممارسة النقدية على شعر صَدْر الإسلام، وعدم الفصل بين الشعر وغيره من المجالات الأخرى، ولا يخشى في طبيعة المعيار الديني على التضييق على المبدعين بإلزامهم بموضوعات بعينها؛ لأن العبرة هنا بالمضمون لا بالموضوع، والفرق جوهري بينهما كما تبيّن عند الكاتب.
ومن النماذج التطبيقية التي قدمها للكشف عن العلاقة بين النظرية والتطبيق، أو لنقل بين الموقف الإسلامي النقدي كما تحدد سابقا وبين حركة الإبداع الشعري في صدر الإسلام بردةُ كعب، باعتبار أنّ هذا الأخير إلى جانب حسان ولبيد وابن رواحة… قد استطاعوا أن يُصْدِروا عن روح القرآن ولغته، وإن لم يكن بدرجة العمق الذي يحدث هزة قوية في التجربة الإبداعية.
قصيدة البردة تمثل قسمين كبيرين: غزل ثم اعتذار ومدح للنبي، وقد أعجب بها صلى الله عليه وسلم ، وخلع على صاحبها بردته فعفا عنه، وشأن الغزل ووصف الخمرة فيها – مهما تشعبت دواعيه في مقام يجمع الخوف والأمل- يجسد -حسب الكاتب- الطبيعة المرنة للمنهج الإسلامي في النقد الأدبي. وقد كانت التعليلات متعددة لوجود الغرض الأساس إلى جانب الغزل ووصف الخمرة وغيرها مما نهى عنه الإسلام في قصيدة شعراء الإسلام كما هو حال قصيدة كعب، وقد بسط المؤلف أهمها؛ فمن شاكٍّ في تلك الأجزاء الواصفة صراحة للخمرة، ومن مميِّز بين التقليد الفني والسلوك الخلقي العملي لدى الشاعر، ومن معلِّل تعليلا فنيا خالصا انطلاقا من مفهوم ((المعادل الموضوعي))، ومن ذاهبٍ إلى قصر فترة صدر الإسلام وعدم تغلغل المفاهيم الإسلامية في النفوس.
ليخلص إلى أن الذي يقصده هو أن العملية النقدية القديمة لم تكن بأكثر من استجابة وجدانية تتخللها ومضات فكرية تضبط الحكم بمعايير الإسلام الجديدة، ومع ذلك تعتبر جزءا أساسيا من الوعي النقدي، وحجَرَ الأساس في هذا المنهج.
< رابعا : الأدب الإسلامي ونقده: أي مصطلح وأي مفهوم؟
كان الخلط الحاصل في المفاهيم لدى بعض مَن ينتمون اليوم إلى هذا الأدب، داعيا وموجبا كافيا دفع الدكتور علي لغزيوي لرفع الالتباس عمّن يقول: ليس هناك أدب إسلامي وآخر غير إسلامي بل إن الأدب العربي إسلامي بالضرورة، وكل ما يكتبه الأديب المسلم من أدب هو أدب إسلامي، داعيا إلى ضرورة توضيح المفاهيم؛ بأن وَجْه اللَّبس يتجلى في إطلاق صفة إسلامي على الأدب العربي إطلاقا عاما لا يراعي خصائصه ومقوماته، بل فقط لأنه ينتمي إلى بِيئة إسلامية، وكُتب بلغة عربية، أو كتبه أديب مسلم بلغة أخرى، وبناء على هذا الإطلاق فإن الكاتب يمثل بالأخطل النصراني، وبأبي نواس الماجن… وهم عاشوا في بيئة إسلامية، لكن موضوعاتهم خارجة في غالبها عن النهج الإسلامي.
والوجه الثاني الملتبس هو ما يتعلق بحقيقة الأدب الإسلامي ومفهومه، وهنا يضع الكاتب سؤالا مركزيا هو: ما العناصر الإسلامية وكيف تتحقق في النص فيوصف بالإسلامي، وتغيب عنه فلا يوصف بذلك؟ ليبدأ في الإجابة بتوضيح “إسلامية الأدب”، فيقرر أن لفظة “إسلامية” تفيد النسبة إلى الإسلام، والغرض هو تحديد مذهب في البحث والنظر يعتمد الرؤية الإسلامية النابعة من القرآن والسنة.
غير أن النظرة الإسلامية ترفض مبدأ الفن للفن، كما تستبعد الوعظ والإرشاد والمباشرة السطحية، بل تعتد بصياغة المبدع للمضمون صياغة فنية وفق الشروط الفنية المتعارف عليها، وهنا يسارع ليوضح أن الموضوع الإسلامي وحده لا يكفي لصنع أدب إسلامي؛ لأن الذي يعتد به هو المضمون، والحرية في الأدب في التصور الإسلامي حرية مسؤولة واعية؛ تميز بين الطيب والخبيث…
وعلى ضوء التفريق السابق يفرق أيضا بين أدب يصدر عن مسلم يؤمن بالإسلام رسالة وسلوكا وتطبيقا في مختلف المجالات، وبين أدب يصدر عمن يفصل الدين عن شؤون الحياة وسلوك الناس، ليقف النقد الإسلامي متميزا في نظرته إلى الإبداع الأدبي بسعيه إلى افتراض التلازم الوطيد بين النظرية الخلقية والنظرية الشكلية.
< خامسا : أية مقومات وأهداف للمنهج الإسلامي في النقد؟
وقد حددها المؤلف في ثلاثة هي : أولا ارتباط المنهج بالعقيدة والتزامه بها، والثاني التوازن بين المضمون والشكل، والثالث التكامل بين الذاتي والموضوعي. وقد مضى يفسّر كلَّ مُقوّم على حدة، مبينا مفهوم الرؤية الإسلامية للالتزام في النقد الأدبي المرتبطة بالعقيدة، والتي من شأنها تحقيق أهداف، مثل تصحيح العلاقة بين الأدب وهذه العقيدة، والانسجام بين عقيدة الأديب المسلم وحسه الأدبي، وإنصاف العقيدة الإسلامية وإبراز موقفها الصحيح من الأدب والفن، وحماية القيم الفنية في الأدب. وبعد توكيده على ضرورة ارتباط المنهج الإسلامي في النقد الأدبي بالعقيدة في سموها وعمقها، وحاجته إلى المصطلح المناسب المنسجم، أخذ في بيان التوازن في الاعتداد بالمضمون وجماليات الشكل، وأنّ هذا التوازن يمثل واحدا من أبرز مقومات المنهج الإسلامي.
< خـــاتـمـة :
وأما خاتمة الكتاب ففيها اعتراف من الكاتب بأن الجوابات التي قدمها على الأسئلة التي شغلته، وهي: هل يمكن قيام منهج إسلامي في النقد الأدبي؟ وما هي خصائصه؟ وما مقوماته وأهدافه؟ كانت غير شافية، لكنها معالم في الطريق تهدي السبيل إلى إغناء التجربة وإرساء القواعد، ككل بدايات مؤصِّلة لأيِّ علم. كما يرى أنه من المفيد تسجيل أبرز المبادئ التي تسعى رابطة الأدب الإسلامي العالمية إلى تحقيقها في مجال الأدب والنقد، وهي أن الأدب الإسلامي تعبير فني هادف عن الحياة والكون والإنسان وفق الكتاب والسنة. وحقيقة واقعة منذ انبلج فجر الإسلام، يستمد عطاءه من مشكاة الوحي وهدي النبوة. وهو ريادة للأمة، ومسؤولية أمام الله تعالى. وهو أدب يتحقق تكامله بتآزر المضمون مع الشكل. وهو كما يرفض الانحراف ينفتح بالمقابل للفنون الأدبية الحديثة، ويقدمها للمجتمع وقد برئت مما يخالف دين الله تعالى.
كما أن الأدباء الإسلاميين متقيدون بالإسلام وقيمه، وملتزمون في أدبهم بمبادئه ومثله، مؤتمنون على فكر الأمة ومشاعرها، يستطيعون النهوض بهذه الأمانة من تصورهم الصحيح ومعارفهم الدينية الكافية.
إعداد : د. عبد العزيز الخطيب
——–
(1)- الكتاب المقصود بالقراءة هو “مدخل إلى المنهج الإسلامي في النقد الأدبي-التأسيس”، للدكتور علي لغزيوي رحمه الله، منشور ضمن سلسلة كتاب (دعوة الحق)، العدد السادس، مطبعة فضالة، المحمدية – المغرب (1421هـ – 2000م) من الحجم الصغير عدد صفحاته ثلاث وأربعون ومائة صفحة.