قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >إن أول الناس يقضى يوم القيامة رجل استشهد، فأتي به، فعرفه نعمته، فعرفها، قال : فما عملت فيها؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت، قال : كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال : جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها قال : فما عملت فيها؟ قال : تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال : كذبت، ولكنك تعلمت ليقال : عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارىء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال، فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال : فما عملت فيها؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال : كذبت فعلت ليقال : هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار<. أولا- في أن مدار الحديث في بيان أن الاخلاص معيار قبول الأعمال، وأن الشرك سبب موجب لإحباطها : هذا الحديث في غاية الخطورة، لأنه يحذر من نشوة الجرأة في القتال، ونشوة العلم والقرآن في الدعوة، ونشوة الجود في الإنفاق. وهذه النشوة عبارة عن شعور باطني يطرب له المنتشي عندما يمدحه المادحون المعجبون به. والله تعالى إنما اشترط في أعمال الخلق التي يختبرهم فيها شرطا أساسيا هو إخلاص هذه الأعمال له دون أن يكون معه شريك فيها. والإخلاص مصدر فعل أخلص الذي أصله فعل خلص يخلص خلوصا وخلاصا بمعنى صفا ونجا وسلم. ومنه أخلص بمعنى أخذ الخلاصة أو الخلاص وهو كل محض انتفى من الشوائب. ويقال للزبد إذا خلص من الثفل الإخلاص. وينتقل مفهوم الإخلاص من المادي إلى المعنوي، حيث يقدم الخلق أعمالهم خالصة لخالقهم دون أن تشوبها شوائب النشوة والطرب لإطراء الخلق أمثالهم ومديحهم. والله تعالى يرفض كل عمل مشوب بهذه الشائبة، فقد جاء في حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن رب العزة جل جلاله : >أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه<. وأخطر شرك يتهدد الناس هو شرك النشوة والطرب لإطراء ومدح الناس على عمل الأصل فيه أن يكون خالصا لوجه الله تعالى. فالله تعالى عندما يصير معه شركاء من الخلق المعجبين بأعمال يتقدم بها خلق مثلهم، يزهد سبحانه فيها، ويترك أصحابها ومن أطروا عليهم، وأعجبوا بهم وبأعمالهم. والحديث النبوي الذي صدرنا به هذا المقال يسرد علينا ثلاثة نماذج من الأعمال التي لا يظن فيها الرياء والعجب والنشوة، مع أنها أكثر الأعمال عرضة لشرك الشركاء مع الله عز وجل. فالجهاد والعلم والإنفاق من الأعمال التي يكون الأصل فيها وجه الله تعالى، فهي ليست أعمال يراد بها الشهرة كما هي الحال في اللعب واللهو الذي يراد بهما الشهرة من خلال الألقاب والجوائز والأرقام القياسية وغير ذلك مما يطلب للشهرة. فإذا ما صارت أعمال الجهاد والعلم والإنفاق كاللهو واللعب تطلب بها الشهرة والسمعة، وينتشى بها، فإنها تصير وبالا على أصحابها كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثانيا -في وجوب حذر الدعاة من فتنة نشوة المنابر والإطراء : والشاهد عندي في هذا الحديث ما يعني المشتغلين بالدعوة إلى الله عز وجل، وهم الذين يشتغلون بالعلم وتعليم الناس وقراءة القرآن وتبليغه لهم. فهؤلاء فئة من الفئات المهددة في الحديث النبوي الشريف. وهؤلاء سيعرضون يوم القيامة على الله عز وجل، وتعرض عليهم نعم العلم التي أنعم الله سبحانه بها عليهم، فيعرفونها، ثم يسألون عما عملوا بها، فيكذبون على أنفسهم، والله عز و جل أعلم بسرائرهم، فيكذبهم الله تعالى أمام الملأ، وهم الفئة الثانية التي تكون بعد أول فئة تحاسب يوم القيامة، ثم يسحبون على وجوهم، ويلقون في النار، لأنهم أضاعوا علمهم ودعوتهم بثمن بخس هو عبارات الإعجاب التي قدمها لهم الخلق فتبخرت كالسراب، فتخلى الله تعالى عن أعمالهم لأنه أغنى الشركاء عن الشرك، فقايضوا جزاء الآخرة، وهو الخلود في الجنة بعبارات الإطراء البشرية التافهة. فويل لهؤلاء الدعاة من نشوة تافهة تأخذهم، وهم يبلغون،أو يعلمون أو يقرؤون القرآن، والناس يكيلون لهم المدائح، وهم يطربون لها بعدما كذبوا على أنفسهم زاعمين أن أعمالهم خالصة لوجه الله تعالى في الظاهر، وباطنهم إنما يجعل الهدف والغاية هو إطراء المطرين وإعجاب المعجبين. ومن علامات الانسياق وراء مرض الانتشاء بالمديح والإطراء البشريين عند الدعاة أن يعتقدوا بأنهم قد صار لهم أتباع من المعجبين يسوقونهم سوق الأنعام، فيستخدمونهم دروعا بشرية من أجل الحصول على سمعة تافهة سرعان ما تتبخر كالسراب، وتخلفهم في حسرة وندم، ولات حين مندم. فكثير من دعاة هذا الزمن الرهيب استطابوا أن تكون لهم جماهير تصفق لهم، وتنفخ فيهم النفخ الكاذب فينتفشون كالسنورات أو الديكة، وهم في غمرة النشوة والطرب للمدائح التي لا تعدو المجاملات الكاذبة، والتي لا تخلو أحيانا من سخرية مبطنة لا تنطلي على ذي لب وكياسة في مجتمع يفعل فيه النفاق أفعاله. فكل داعية ارتاح لفكرة اتخاذ الجمهور المعجب به فهو في دائرة الخطر التي حذر منها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم . والجماهير يجب أن تكون جماهير تابعة لخالقها سبحانه، ومعجبة بما أوحى لها به، لا بالذين ينقلون لها الوحي ويبلغونه عنه. فتبليغ رسالة الإسلام لا يجب أن تكون مطية الدعاة من أجل المجد الزائف. ولا يليق بالدعاة الارتزاق بالإسلام سواء كان هذا الارتزاق ماديا أم معنويا. فالذي يستحق الشكر على نعمة الإسلام هو الله عز وجل، وكل من استغل الإسلام لينال حظا من الإعجاب والإطراء فهو شريك لله تعالى، والله عز وجل أغنى الشركاء عن الشرك، فكما أنه سبحانه يترك الدعاة والعلماء، وقراء القرآن وشركهم ونشوتهم بإطراء الخلق عليهم، فإنه يترك المطرين والمعجبين وشركهم وهو أولئك الدعاة والعلماء والقراء. والجميع يسأل يوم القيامة عما كان يسر، ولا يُطلع عليه بشرا، والله عليم به، فيحاسب بما أسر لا بما أعلن. فويل ثم ويل ثم ويل لمن قايض الانتشاء بإطراء الخلق عليه بأجر الخالق سبحانه. خلاصة- في ضرورة التخلق بخلق الاخلاص في كل شيء : وآخر ما يمكن أن يختم به الكلام هو تذكير دعاتنا وحملة هذا الدين يما يلزم من الإخلاص لله عز وجل فعليه المدار في قبول الأعمال وإحباطها، وما أمر العباد إلا بالعبودية لله على وجه الاخلاص قال الله تعالى : {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين}، وقوله تعالى : {قل الله أعبد مخلصا له ديني}، وقوله تعالى : {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص}. والخطاب وإن كان موجها لرسوله صلى الله عليه وسلم ، فإنه يلزم كل المؤمنين، وعلى رأسهم الدعاة، وهم أول من يحاسب يوم القيامة. اللهم إنا نسألك الإخلاص في أعمالنا، ونعوذ بك من داء الرياء والسمعة، ومن الارتياح لإطراء الخلق على أعمالنا. اللهم لا تجعل في أعمالنا شركاء لك فيها، واجعلها خالصة لوجهك الكريم. ذ. محمد شركي