عن النزال بن سيرة ] قال : أتى علي ] باب الرحبة فشرب قائما، وقال : إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت<(رواه البخاري). الرحبة المكان المتسع، والرحب بسكون الحاء المتسع. قال الجوهري رحمه الله تعالى : ومنه أرض رحبة أي متسعة، ورحبة المسجد ساحته. وعلي ] شرب قائما فرأى الناسَ كأنهم أنكروه، فقال : ما تنظرون أن أشرب قائما؟ فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائما، وإن شربت قاعدا فقد رأيته يشرب قاعدا(رواه أحمد). قال ابن حجر رحمه الله تعالى : في حديث علي ] من الفوائد أن على العالِم إذا رأى الناس اجتنبوا شيئا وهو يعلم جوازه أن يوضح لهم وجه الصواب فيه خشية أن يطول الأمر فيظن تحريمه، وأنه متى خشي ذلك فعليه أن يبادر للإعلام بالحكم ولو لم يسأل، فإن سئل تأكد الأمر به. وقد أكد هذا الأمر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حيث قال : سقيت النبي صلى الله عليه وسلم من زمزم، فشرب وهو قائم<(متفق عليه). قال العلماء : شرب النبي صلى الله عليه وسلم من زمزم قائما كان في حجة الوداع، وكأنهم رأوا هذا الفعل منه متأخرا فهو ناسخ أو هو كما قال السيوطي رحمه الله تعالى : يحمل على أنه لم يجد موضعا للقعود لازدحام الناس على زمزم أو ابتلال المكان أو لبيان الجواز.
وقد أكد ابن عمر رضي الله عنهما فعلهم للشراب من قيام والأكل أيضا فقال : كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي، ونشرب ونحن قيام<(رواه الترمذي، حديث حسن صحيح). تضمن حديث ابن عمر الأكل، قال العماء : ولا خلاف في جواز الأكل قائما، وعلى هذا فأحاديث شربه قائما تدل على الجواز، وأحاديث النهي تحمل على الاستحباب -أي استحباب الشرب قاعدا- والحث على ما هو أولى وأكمل. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ] قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائما وقاعدا ، رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. قال الشيخ ] : فإن قيل : كيف يكون الشرب قائما مكروها وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم فالجواب أن فعله صلى الله عليه وسلم بيانا للجواز، والبيان واجب عليه صلى الله عليه وسلم ، وقد توضأ مرة مرة، وطاف على بعير، مع أن الاجماع على أن الوضوء ثلاثا ثلاثا والطواف ماشيا أكمل، فكان يُنبه على الجواز مرة أو مرات ويواظب على الأفضل، وهكذا كان أكثر وضوئه ثلاثا، وأكثر طوافه ماشيا، وأكثر شربه جالسا. وعن أنس ] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يشرب الرجل قائما. قال قتادة : قلنا لأنس : فالأكل؟ ذلك أشر أو أخبث، رواه مسلم، وفي رواية له أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائما. قال القرطبي رحمه الله تعالى : لم يصِر أحد من العلماء قيما علمت إلى أن هذا النهي على التحريم، وإنما حمله بعض العلماء على الكراهة، والجمهور على جواز الشرب قائما. وقول قتادة : “الأكل أشر” فشيء لم يقل به أحد من أهل العلم فيما علمت. وعن أبي هريرة ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >لا يشربن أحد منكم قائما، فمن نسي فليَسْتَقئْ<(رواه مسلم). قال العلماء : لأن في الشرب قائما ضررا فأنكره من أجله، وفعله هو لأمنه وعلى هذا يحمل قوله : >فليستقئ<..
قال الإمام أبو عبد الله رحمه الله : لا خلاف بين أهل العلم في أن من شرب قائما ناسيا ليس عليه أن يستقئ.
ذ. عبد الحميد صدوق