ارتبط ظهور الديموقراطية فكراً وممارسة بشروط تاريخية واجتماعية خاصة بالفكر والمجتمع الغربيين لكنها صارت بعد ذلك خطابا كونيا، تداس فيه الخصوصيات، وتُنَمَّط فيه السلوكات أحيانا وتُحَرف أحيانا أخرى، فابتعدت عن أصلها، وتفرعت عنها فروع سقيمة لئيمة، لذلك نلاحظ أن مستويات تطبيق هذا المفهوم يختلف من بلد إلى بلد، حسب التقاليد والأعراف والنظام السياسي والاجتماعي، وقبل ذلك وبعْدَه حسب العقيدة والدين، ولذلك فالديموقراطية في بلدٍ إسلامي، لا يمكن أن تكون نسخة مطابقة للأصل لديموقراطية أخرى في بلدٍ غير إسلامي وخاصة البلدان الغربية العلمانية، إذ من المعلوم أنه لا يمكن أن يطرح للتصويت موضوعٌ من الموضوعات المنصوص عليها شرعاً تحليلا أو تحريما، من أجل تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحله، أو إبطال حق مشروع، أو إقرار باطل مرفوع، أو ما شابه ذلك. إذ من المعروف أن ما يُخضع للتشاوُر والتحاور وإبداء الرأي، هو ما يتعلق بأمور الدنيا العامة مما لم يرد فيه نص من الكتاب أو السنة. وتبعا لذلك فإن الأصل في الديموقراطية هو أن ما أجمعت عليه الأمة، أو ما قررته بأغلبيتها مما بدا لها أنها صواب في أمور الدنيا، فلا بُدّ أن يُعمل به، ولابد أن يُنظر إليه بعين التقدير، كذلك فإن من اقترحوه ليتولى أمراً من أمورهم إجماعا، أو أغلبية، أن يكون في مستوى ما أولوْه، وأنْ يفي بما وعدهم به، وأن يبذل قصارى جهوده من أجل ذلك، دون أي تحيّز حِزْبي أو عصبي، على الأقل بسبب أنه حينما كان يخاطب الجمهور من أجْل أن يصل إلى ما وصل إليه، لم يكن خطابه موجّها إلى فئة دون أخرى. والأصل في الديموقراطية، أن تكون بعيدة عن كل ما يشينها، أو ينتقص من مكانتها، سواء أتعلق الأمر بالتنافس غير الشريف، القائم على شراء الذِّمم، وتشويه المنافِس الآخر زوراً وبهتانا، أم بالتزوير والتدخل في النتائج التي أدى إليها التصويت أو الانتخاب، وإلا كانت الديموقراطية نوعاً من اللعب والتمثيل المسرحي ليس إلا. والأصل فيها كذلك أن تكون خادمة للشعب من جميع الجوانب التي كانت مجالا للتصويت في الاستفتاء أو الانتخابات لا سيفًا مصلتا عليه، أو على فئة دون أخرى، أو تكون مجرد شعارات للتسويق المرحلي، وخدمة أغراض ومصالح ضيقة شخصية أو عصبية. وعلى أساس ذلك، فإن الأصل في الديموقراطية أيضا أن تخضع الأقلية لرأي الأغلبية، بشكل طوعي، دون حزازات أو صراعات، وأن تقوم بدور المعارضة بشكل بنّاء لا هدام. وهذا كله مع صدق النوايا واخلاصها عند الجميع. هذا وغيْره مما وافقه أو شابهه من الأصول السليمة للديموقراطية، التي تسعى لخدمة المجتمع وإسعاده والنهوض به لكن في المقابل هناك فروع لئِيمة تمثلها فئات وجهات بل مؤسسات وهيئات، ترفع شعار الديموقراطية وهي منها براء، وتنادي بها وهي منها بعيدة.
د. عبد الرحيم بلحاج