إن من معالم المنهج النبوي في تعليم القرآن الكريم لأصحابة الكرام أموراً عديدة، منها ما يتعلق بمنهج التعليم نفسه، ومنها ما يتعلق بمقدماته أو متعلقاته، وفي هذا المقال جمع بعض ما ورد في الروايات والأحاديث في هذا الجانب، لما فيه من إثارة الهمم، وتحريك النفوس وترغيبها في تعلم القرآن الكريم ومدارسته، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث الصحابة على التعلم ويرغبهم فيه بأساليب كثيرة، منها:
> إشاعة ونشر تعلم القرآن في المجتمع ليكون الشغل الشاغل للمسلمين، وأحد أهم أولوياتهم، وقد استجاب الصحابة لهذا الباعث فانشغلوا بالقرآن وقدموه على غيره وجعلوه شغلهم الشاغل، ومالئ أوقاتهم، وبذلوا في سبيل الاعتناء به الكثير من جهدهم، ومما يشهد لهذا روايات كثيرة منها:
تخصيص كل منهم حزبا لنفسه يلتزم قراءته يوميا، وإن فاته حزبه في وقته المعتاد بادر إلى قضائه، قال صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْ وِرْدِهِ -أَوْ قَالَ : مِنْ حِزْبِهِ- مِنَ اللَّيْلِ فَقَرَأَهُ مَا بَيْنَ صَلاةِ الْفَجْرِ إِلَى الظُّهْرِ ، فَكَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنْ لَيْلَتِهِ))(1). عن عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: ((وَالَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ مَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ سُورَةٌ إِلاَّ أَنَا أَعْلَمُ حَيْثُ نَزَلَتْ، وَمَا مِنْ آيَةٍ إِلاَّ أَنَا أَعْلَمُ فِيمَا أُنْزِلَتْ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا هُوَ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّى تَبْلُغُهُ الإِبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ))(2).
وعن علي بن أبي طالب أنه قال: “سلوني عن كتاب الله تعالى فو الله ما من آية إلا وأنا أعلم أنزلت بليل أو نهار”(3)، وما كانا ليحصلا على هذا العلم إلا بالاجتهاد والتعلم وبذل الوقت.
> الترغيب في تعلم القرآن وحفظه والحث على تعاهده وبيان الأجر العظيم على تلاوته وتعلمه، والأحاديث المؤكدة لهذا الباعث كثيرة، منها: عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “خيركم من تعلم القرآن وعلمه”، قال: وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج، قال وذاك -أي هذا الحديث- الذي أقعدني مقعدي هذا(4.) وقال صلى الله عليه وسلم : ((…وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ))(5).
وفي الأحاديث الواردة في فضائل القرآن وفضائل سور مخصوصة أو آيات معينة حافز كبير للإقبال على قراءتها وتعلمها وحفظها.
وكذلك في الأحاديث التي تحدد الأجر لمقدار محدد يقرأ، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : ((من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمئة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين))(6).
> بث الثقة في نفوس متعلمي القرآن ورفع معنوياتهم: وذلك من خلال وسائل عديدة، منها: إرسال من يعلم القرآن للآخرين، فقد أرسل مصعب بن عمير إلى المدينة يعلم أهلها القرآن(7)، ومعاذ بن جبل إلى اليمن أميرا ومعلما للقرآن والدين(8)، وسبعين من القراء إلى نجد يعلمونهم القرآن إلا أنه غُدر بهم وقتلوا في حادثة بئر معونة(9).
الطلب من بعضهم أن يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم عليه القرآن، فعن أبي بن كعب قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله أمرني أن أقرأ عليك، قال: آلله سماني لك؟ قال: الله سماك لي، قال: فجعل أُبيّ يبكي(10).
الطلب من بعضهم أن يقرأ القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، فعن ابن مسعود قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: “اقرأ عليّ”، قلت: آقرأ عليك وعليك أُنزل ؟ قال: “فإني أحب أن أسمعه من غيري”، فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} قال:” أمسك”، فإذا عيناه تذرفان(11).
امتداح المجيدين منهم، وفي هذا الأسلوب حافز كبير لمن يمتدح بالإجادة، وقد امتدح النبي صلى الله عليه وسلم تلاوة عدد من الصحابة، فعن عمار بن ياسر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بعبد الله بن مسعود وهو يقرأ حرفا فقال: “من سره أن يقرأ القرآن كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن مسعود”(12).
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأَبِى مُوسَى: “لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ”(13).
وعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: أبطأت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بعد العشاء . ثم جئت فقال: “أين كنت”؟ قلت: كنت أستمع قراءة رجل من أصحابك لم أسمع مثل قراءته وصوته من أحد، قالت: فقام وقمت معه حتى استمع له . ثم التفت إلي فقال: “هذا سالم مولى أبي حذيفة، الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا”(14). وقال صلى الله عليه وسلم “خذوا القرآن عن أربعة: ابن أم عبد، ومعاذ بن جبل، وأُبيّ بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة”(15).
> تكريم أهل القرآن وتقديمهم على غيرهم في أمور عديدة،، منها: تقديمهم في الصلاة، ففي الحديث: “يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِى الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِى السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِى الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا، وَلاَ يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِى سُلْطَانِهِ وَلاَ يَقْعُدْ فِى بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ”(16).
وعن عمرو بن سلمة أنه أمّ قومه وهو ابن ست أو سبع سنين حيث كان أحفظهم، وكان إذا سجد تقلصت بردته….(17). تقديمهم في استحقاق الإمارة، حيث ولى عثمان بن أبي العاص إمرة قومه وكان أحدثهم سنا لأنه أكثرهم حفظا(18). تقديمهم في القبر، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدّمه في اللحد(19).
ومن تكريمهم جعل الحفظ قائما مقام المهر، ففي حادثة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابي الذي عرض الزواج بها: ماذا معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا وسورة كذا وسورة كذا عدّها، قال: أتقرؤهن عن ظهر قلبك؟ قال: نعم، قال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن(20).
> الحث على التأني في التعلم وفي التلاوة ليثبت المتعلَّم ويستقر، وقد أمر الله سبحانه وتعالى به في قوله تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به} قال الشعبي: “كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي عَجِلَ يتكلمُ به من حبه إياه فنزلت الآية”(21)، ففي الآية أمر بالتأني والتمهل في تعلم الآيات الكريمة(22)، وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: “لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث”(23).
وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثني الذين كانوا يقرؤون على عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا(24).
د.أحمد شكري(ü)
———-
(ü) مدير المركز الثقافي الإسلامي -الجامعة الأردنية
1- رواه النسائي في السنن، وأحمد في المسند برقم 220 (1/344) وإسناده صحيح.
2- رواه مسلم برقم 6487 (7/148).
3- ابن حجر، الإصابة 4/568.
4- رواه البخاري برقم 4739 (4/1919).
5- رواه مسلم برقم 7028 (8/71).
6- رواه أبو داود برقم 1400 (1/528).
7- ابن حجر، الإصابة 6/123.
8- ابن حجر، الإصابة 6/488 ومواضع أخرى.
9- رواه البخاري في عدة مواضع
10- رواه البخاري برقم 4676 (4/1896) ومسلم برقم 1900 (2/195).
11- رواه البخاري برقم 4306 ومسلم برقم 1903.
12-رواه الحاكم في المستدرك 2/247.
13-رواه مسلم برقم 1888.
14-رواه ابن ماجه برقم 1338، والحاكم 3/250 وهو صحيح.
15-رواه مسلم برقم 2464، وأحمد في المسند برقم 6523. 16-رواه مسلم برقم 1564.
17-رواه البخاري برقم 4051 (4/1564).
18-رواه الطبراني في المعجم الكبير برقم 8336 (9/50).
19-رواه البخاري برقم 1278.
20-رواه البخاري برقم4742، ومسلم برقم 3553.
21-الطبري في جامع البيان 29/187.
22-مكي بن أبي طالب، تفسير الهداية إلى بلوغ النهاية 12/7874.
23-رواه الترمذي برقم 2946 وابن ماجه برقم 1347.
24-الطبري في جامع البيان 1/36، والحاكم في المستدرك 1/577.