مصطلح التنمية :
الـمفهوم والواقع لا يزال الأمر بهذا الخصوص متعلقا بالكلمات المفردة التي لنا فيها وجهة نظر مما جردناه من كتاب اللغة العربية الصحيحة، وصنفناه تحت الأرقام(1- 2- 3- 4) في العدد 371 من المحجة. وقد ناقشنا في الأعداد الماضية ما أوردناه تحت الأرقام الثلاثة الأولى(1- 2- 3).
ونناقش في هذه المقالة بحول الله ما صنف تحت رقم(4) في العدد المشار إليه أعلاه، وهو كلمة واحدة هي (التنمية). ولذا لا بد من إيراد نماذج من النصوص التي استعملها فيها المؤلف حتى يتضح المعنى الذي يعنيه بها وهي كما يلي : يقول المؤلف المحترم :
1- “وإذا كانت اللغة الفصيحة قد حرمت من البيئة الطبيعية التي تستعمل فيها فلا أقل من اصطناع الوسائل العلمية… لاكتسابها وتنميتها.” (ص 27- 28).
2- ويقول بخصوص عرض نتائج الندوة وتوصياتها : “التركيز على تنمية المهارات اللغوية العربية…” ص 29 – س 7.
3- “تصميم مقررات متدرجة لتنمية المهارات اللغوية” ص 31 س6.
يلاحظ من خلال النصوص أعلاه أن كلمة التنمية استعملها المؤلف بمعنى الزيادة وهذا ما يتجلى في قوله “تنمية المهارات” الواردة في النصين الثاني(2) والثالث(3) وقوله “لاكتسابها (أي اللغة) وتنميتها في النص الأول(1). والسؤال هل تدل كلمة التنمية على الزيادة فقط كهذا الذي لاحظناه عند المؤلف، أم أن لها دلالة أخرى؟ وفي حال وجود دلالة أخرى لها، فهل تختص بها أم أنها ستكون من باب الإشتراك اللفظي؟ لأجل الإجابة عن هذين السؤالين لا بد من دراسة شمولية لأصل هذه الكلمة وفروعها ثم محاولة ضبط دلالة كل شكل من أشكالها الأصلية إن تعددت، ودلالات فروعها، وبهذا الخصوص يلاحظ أن أصل هذه الكلمة يتألف من ثلاثة أبنية (أشكال) وهي كما يلي :
أ- نَمَّ بالنون المفتوحة والميم المشددة المفتوحة.
ب- نَمَا بالنون المفتوحة، والنون المفتوحة بعدها ألف ممدودة.
حـ- نَمى بالنون المفتوحة، والميم المفتوحة بعدها ألف مقصورة. وقبل أن نناقش هذه الأصول الثلاثة لنرى ما بين دلالاتها من تطابق أو تباين، وما ينتج عن ذلك من المشتقات التي يمكن أن يكون لها دور في تحديد الدلالة الأنسب للكلمة التي نحن بصدد مناقشتها، نورد بعض الأمثلة المشابهة لها لنوضح أن هذا جانب من أبنية الكلمات في اللغة العربية لا يحظى بالعناية اللازمة من حيث قواعده، وعليه يترتب الغبش في فهم دلالات بعض الكلمات أو تحريفها عن مواضعها، وهذه الأمثلة موثقة كما يلي :
أولا :
1- بَنَا : ببَاءٍ وَنُونٍ مفتوحتين، ثم ألف ممدودة. يقول ابن منظور : “بنا في الشرف يَبْنُو، وعلى هذا تُؤُوِّل قول الحطيئة : “أولئك قوم إن بَنَوْا أحسنوا البُنا.”(ل ع 14/89ع 1).
2- بَنَى : بباء ونون مفتوحتين ثم ألف مقصورة. يقول ابن منظور : ” وَبَنَى فلان على أهله بِنَاءً.” (ل ع 14/97/ع1).
ثانيا :
1- بَهَا بالباء والهاء المفتوحتين وبعدهما ألف ممدودة. يقول ابن منظور: “بَها : البَهْوُ : البيت المقدم أمام البيوت”(ل ع 14/97).
2- بَِهِيَ : بباء مفتوحة بعدها هاء مكسورة ثم الياء. يقول ابن منظور : “وبَهِيَ البيت يبْهى بهاء : انخرق وتعطل..”(ل ع 14/78 ع 1). وهناك أمثلة أخرى من هذا النوع مثلا تلا، وتِلي..الخ وعليه فماذا عن الأمثلة التي نحن بصدد مناقشتها : نَمَّ- نَمَا- نَمَى؟. – نَمَّ يقول الخليل ” النَّميمة والنَّميمُ : هي الاسم، والنعت نَمَّم. والفعل نمَّ يَنِمُّ نمّا، ونميماً ونميمةً…”(العين 8/373) فالفعل كما ورد عند الخليل في هذا النص يتكون من نون وميمين والاسم منه النميمة والنميم، وهذا ما يتضح أكثر عند ابن منظور إذ يقول : “نمم : النَّم : التوريش والإغراء ورفع الحديث على وجه الإشاعة والإفساد. وقيل تزيين الكلام بالكذب والفعل نمّ ينِمُّ ويَنُم والأصل الضم، ونَمَّ به وعليه نمّاً ونميمة” التهذيب : النميمة والنميم هما الاسم والنعت نَمَّام…”(ل ع 12/592 ع 1). ب- نَمَى(ونَمَا) بالشكلين معا يقول ابن دريد : “ونَمَى الشيء يَنْمِي وينمُو، والياء (يعني ينمي) أعلى وأفصح. فمن قال : ينمو جعل المصدر نُمُوّاً، ومن قال بالياء(ويعني ينمي) جعل المصدر : نماء” (الجمهرة 3/179 ع 2 س 22).
ويوضح ابن منظور هذا الذي أوردناه لابن دريد مقتضبا بقوله : “نَمَى : النماءُ : الزيادة. نَمَى يَنْمِي نَمْياً ونُمِيّاً ونَمَاءً : زاد وكثر، وربما قالوا : ينمو نُمُوّاً. المحكم : قال أبو عبيدة، قال الكسائي ولم أسمع ينمو بالواو إلا من أخوين من بني سليم… هذا قول أبي عبيدة. وأما يعقوب فقال ينمي وينمو فسوى بينهما..” (ل ع 15/341 ع 2). نلاحظ من خلال النصوص أعلاه (أ- ب) ما يلي :
1- أن فعل (نمّ) أصل اسم النميمة، التي هي رفع الحديث على وجه الإشاعة والإفساد. ويبدو أن دلالة هذا الأصل لا تنفك عن فروعه المشتقة منه، وهو ما نلاحظه بالنسبة للنميمة، والنميم، والنّمَّام، فكل هذه الكلمات تدل على نقل الكلام على وجه الإفساد. وعليه ترى أن هذا الحكم يسري على كل ما يتفرع عن فعل (نمَّ) بالزيادة مثل (نمَّى) بتشديد الميم ومد الصوت بألف مقصورة. وهنا يرد إشكال يستوجب حلا مقنعا. هو : هل (نمَّى) أصله (نمَّ) أضيفت إليه الألف المقصورة؟ أم أن أصله (نَمَى) مزيد بالتضعيف؟ وكلا الاحتمالين وارد، وبالخصوص الوجه الثاني. لأنه إذا اعتبرنا الأصل هو “نمَّ” فإن “نمَّى” وما يشتق منه يدل على نقل الكلام على وجه الإفساد، وإذا اعتبرنا الأصل هو “نَمَى” مزيدا بالتضعيف، فإنه يدل على الزيادة، ولعل هذا هو منطلق الإشكال بخصوص هذه المسألة. بالنسبة للسؤال المعلق نجد إشارتين قويتين للإجابة المقنعة عند الخليل : ذلك أنه أورد هذه المادة “نَمَّ” و”نَمَى”…، وكل باب يتضمن إشارة للإجابة عن السؤال المعلق. وهاتان الإشارتان كمايلي :
أ- قال في باب النون والميم. الذي أوردنا فيه مادة “نَمَّ” “نمَّ يَنِمُّ نمّاً” ونمَّى تنمية” 8/373، فقد جعل أصل “نمَّى تنمية” هو فعل “نمَّ” الذي رأينا أن معناه هو نقل الكلام على وجه الإفساد، وعلى هذا يكون معنى التنمية هو نقل الكلام على وجه الإفساد!
ب- وقال في باب النون والميم وما يثلثهما الذي أوردنا فيه مادة “نَمَا” “نَمَا الشيء ينمو نموا، ونَمَا ينْمِي نَمَاءً.. ونَمَا الخِضَابُ ينمو نُموّاً إذا زَاد حُمرة وسواداً… وتَنَمَّى الشيء تَنَمِّياً إذا ارتفع، قال القطامي: فأصبح سيلُ ذلك قد تَنَمَّى إلى مَنْ كان منزله يَفاعا (العين 8/384). هكذا نلاحظ أنه لم يات ب”نمَّى تنمية” في هذا الباب وإنما أتى ب “تَنَمَّى تَنمِّياً”المزيد بالتاء والتضعيف.
2- من بين مصادر الأصل”نَمَى”. النماء، والنمو، وكل منهما يدل على ا لزيادة كأصله “نمى” وعليه فهذان المصدران : النماء والنمو أولى بالاستعمال للدلالة على الزيادة، لا كلمة “التنمية” التي رأينا أن الخليل أوردها ضمن مشتقات فعل “نَمَّ” الذي نعرف دلالته، ويمكن أن نضيف “تَنَمِّياً” مصدر تَنَمَّى لمجال الدلالة على الزيادة، لكن نظرا لثقله يكتفى بالمصدرين السابقين. ويبدو أن هاتين الإشارتين اللتين لاحظناهما عند الخليل ترجحان دلالة التنمية على نقل الكلام على وجه الإفساد وتزيلان ما ورد عند ابن منظور من احتمال دلالة التنمية على الزيادة بقوله : “وأنْمَيْتُ الشيء، ونمَّيتُه جعلته ناميا… ونَمَى الحديث يَنْمِي : ارتفع، ونَمَيْتُه رفعته، وأنْمَيْتُه أذَعْتُه على وجه النميمة، وقيل : نَمَّيْتُه مشددا أسندته ورفعته، ونمَّيْتُهُ مشددا أيضا : بلغته على جهة النميمة والإشاعة، والصحيح أن نَمَيْتُه (بالتخفيف) رفعته على جهة الإصلاح. ونَمَّيْتُه بالتشديد رفعته على جهة الإشاعة والنميمة”. (ل ع 15/341 ع 2). ويبدو أن ما أوردناه بخصوص توضيح دلالة هذه الكلمة يغني عن المزيد من التوضيحات التي يمكن أن تزيد الموضوع بيانا. والله أعلم.
د.الحسين كنوان