الخطبة الأولى
الحمد لله، تفرَّد بالخلق والقضاء تدبيرًا وإحكامًا، أحمدُه سبحانه أظهرَ بديعَ آياته في عباده يقظَةً ومنامًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له توحيدًا للباري وإعظامًا، شهادةً نرجُو بها عِزًّا للعلياء تسامَى، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله زكَّى الله به أرواحًا وأرشدَ أفهامًا، صلَّى الله على أصدقِ البريَّةِ مرائيَ وأحلامًا، وعلى آله الطيبين نفوسًا الراجحين أحلامًا، وصحبِهِ الغُرِّ الميامين الأُلَى تواصَوا بالحق والهُدى بيانًا واعتصامًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ يرومُ من الجِنان منزلاً عليًّا ومُقامًا، وسلِّم ربَّنا تسليمًا كثيرًا عديدًا مُبارَكًا كريمًا إلى يوم الدين مديدًا.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله تبارك وتعالى، واعلموا أن تقواه عز وجل هي السراجُ المُنير في حُلَك الدُّجَى، والمُعتصَمُ الوثيقُ لذوي الحِجَى، والمِعراجُ السنِيُّ عند الضراعة والالتِجا، وبها الظَّفَرُ بالرغائب والرَّجا،{ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِين}(البقرة: 194).
سرَى أهلُ التُّقَى ليلاً وجَدُّوا
وفازوا بالوُصولِ ولاحَ وعدُ
ولم تلحَق بهم أو تستعِدُّ
ومن لك بالأماني وأنت عبدُ
أيها المسلمون:
لا يرتابُ أهلُ الإيمان أن شريعةَ الإسلام قصدَت إلى حفظِ الدين والسموِّ بالعقول والأفهام، ونأَت بأتباعها عن مسالكِ الأضاليل والأوهام، وإنه بالتدبُّر في دفتر الأكوان يرتدُّ إلينا بصرُ الإعجاز والبُرهان بأعظم حُجَج القُرآن: أن الإنسان هو أكرمُ الجواهر بما أودعَ الباري فيه من آياته البواهِر.
ومن ذلكم: آيةٌ زخِرَت بالعِبَر، وتعلَّق بها جمٌّ غفيرٌ من البشر، وحارَت في دلائلها الفِكَر، عجزَ دون تجليَةِ حقائقها العالِمون، وشطَّ عن حدِّها العارِفون، أبحَروا في أسرارها وخوافيها، فاشتجَرَت مذاهِبُهم دون كُنهها وأنَّى تُوافِيها؛ لأن أقوالهم عطِلةٌ عن البُرهان، فأشبَهَت الهَذَيان.
لكن الحبيبَ -بأبي هو وأمِّي- صلى الله عليه وسلم قد أوضَحها وجلاَّها، فتدلَّت لنا كالشمسِ في ضُحاها، إنها -يا رعاكم الله- : آيةُ الرُّؤى والأحلام، أوان السُّبات والمنام، {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحقِّ}(الفتح: 27).
وفي بيان معانيها وأقسامها وماهيَّتها ومرامِها يقول صلى الله عليه وسلم : ((الرُّؤيا ثلاثة: فرُؤيا صالحة بُشرى من الله، ورُؤيا تحزينٌ من الشيطان، ورُؤيا مما يُحدِّثُ به المرءُ نفسَه))(رواه البخاري، ومُسلمٌ، واللفظُ له).
أقسامُها ثلاثةٌ عن النبي أولُها: بُشرى الإلهِ الأقربِ، والثاني: تحزينٌ من الشيطانِ وثالثٌ من همَّةِ الإيمانِ
إخوة الإسلام:
وتنويهًا بمنزلة الرُّؤيا الشريفة وحالتها المُنيفة؛ فقد بوَّب أئمةُ الحديثِ في الصِّحاح والسنن أبوابًا في الرُّؤى وتعبيرها، يقول صلى الله عليه وسلم : ((الرُّؤيا الصالحة جزءٌ من ستَّةٍ وأربعين جُزءًا من النبوَّة))(خرَّجه الشيخان).
ويقول صلى الله عليه وسلم : ((لم يبقَ من النبوَّة إلا المُبشِّرات)). قالوا: وما المُبشِرات يا رسول الله؟ قال: ((الرُّؤيا الصالحة))(رواه البخاري ومسلم).
ولقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضوان الله عليهم : ((من رأى منكم رُؤيا فليقُصَّها أعبُرُها له))(رواه مُسلم).
وما ذلك إلا تشوُّفًا منه صلى الله عليه وسلم لظهور الإسلام وسُطوعه، واقترابِ عِزَّته ولُموعه، ولكن أصدَق الناسِ رُؤيا أصدقُهم حديثًا، وهم أهلُ الإيمان والصلاح.
يقول صلى الله عليه وسلم : ((إذا اقتربَ الزمانُ لم تكَد رُؤيا المؤمنِ تكذِب، وأصدقُهم رُؤيا أصدقُهم حديثًا))(متفق عليه).
قال الإمام الحافظابن حجر -رحمه الله-: “وقد يندُرُ خلافُ ذلك”.
معاشر المؤمنين:
وفي أعقابِ الزمن ولما بعُدَ كثيرٌ من الناس عن آثار النبوَّة، وفي عصرِنا الصاخِب بالفضائيات، الموَّار بالتِّقانات تصدَّرَ لهذا العلمِ العويصِ الغيبيِّ، والفنِّ اللطيفِ السنِيِّ ثُلَّةٌ من العابِرين، وطرقَ مضائِقَه الكأداء فئةٌ من المُتعالِمين -هداهم ربُّ العالمين -، فعبَروا المرائي على ما يسُرُّ الرائي وفق الحَدس والأهواء دون رَيثٍ أو إبطاء، وكأنَّ أحدهم ابنُ بَجدتها، وطلاَّعُ أنجِدتها، تراه من جزمِه كأنما يعبُر من وحيٍ.
فكم من أضغاثِ الأحلام تُبنَى عليها الخيالات والأوهام، وتطيشُ بسوء تعبيرها رواجِحُ العقول والأفهام، فتهدِمُ الحقائق، وتُفكِّكُ أوثقَ العلائِق، فيُصبِحُ الأوِدَّاء في تعاسةٍ وشقاء، والأزواجُ والآباء في عنَتٍ وعناء.
فسُبحان الله -عباد الله-، فدامةٌ في الاستِعبار وإسفاف، وتمحُّلٌ في التعبير واعتِساف، وإفراطٌ في رشقِ المُغيَّبات وإسراف، دون تنزُّهٍ عن أموال الناس أو استِعفاف.
ربَّاه ربَّاه؛ كم من كريماتٍ أوانِس غدَينَ بسبب تجاسُر وجُرأة العابِرين قعيدَاتِ البيوت عوانِس، ورُبَّ داءٍ أضرُّ منه الدواءُ، وآخرُ رأى في غسَق الأسحار من الرُّؤَى الأجَلْ فجعل منها معقِد الأملْ، وخفَّ إلى وثير التواكُل والتواني، يرصُدُ فجأةَ الثراء وبلوغ الأماني، وتجاهلَ المغرورُ قولَ العزيز الغفور: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(الملك: 2).
أمة الإسلام:
وكم همُ الذين أسلَسُوا قِيادَهم لبوارِق الرُّؤَى تبني أمجادَهم وتتولَّى إسعادَهم؟!
وكم همُ الذين زُعزِعَت بيوتُهم الهانئة بالشُّكوك والهواجِس بسببِ تعابير جارِحة؟! وآخرون اغتالَت نفوسَهم المُطمئنَّة الغُمَمُ والوساوِسُ بتفسيراتٍ كالِحة.
ومن الأسَى أن يتوغَّل هذا الوهمُ لدى أقوامٍ اتَّخَذوا المنيَّ مطيَّةً لبعض التكليفاتِ الإلهية، والإرهاصات الربانية، والاستِنباطات الشرعية، والله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}(المائدة: 3).
ومن المُقرَّر عند علماء الإسلام: أن الرُّؤى والأحلام لا تُبنى عليها الأحكام.
يقول الإمام الشاطبيُّ -رحمه الله -: “فإن الظواهِر قد تعيَّن فيها في حُكم الشريعة أمرٌ آخر، فلا يُعتمَدُ فيها على الرُّؤى النومية؛ فمثلُ هذا من الرُّؤى لا مُعتبَر بها في أمرٍ ولا نهيٍ، ولا بِشارةٍ ولا نِذارة؛ لأنها تخرِمُ قاعدةً من قواعد الشريعة، ولو جازَ ذلك لجازَ نقضُ الأحكام بها وإن ترتَّبَت في الظاهر مُوجِباتُها، وهذا غيرُ صحيحٍ بحالٍ”.
عباد الرحمن:
أيها العابِرون! حنانَيكم بأنفسكم وبالمُسلمين حنانَيْكم؛ فتأويلُ الرُّؤيا بمنزلة الفتوى من الأهمية والمكانة، وفي التنزيل العزيز: {أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}(يوسف : 43). فسمَّى تعبيرَ الرُّؤى فتوى، وفي ذلك من الخُطورة ما ترتعِدُ من حوله الفرائِصُ.
فلا تُخاضُ غِمارُ الرُّؤَى إلا بفهمٍ وعلمٍ وبصيرةٍ نافِذةٍ وحلمٍ، ولا يعبُرُها إلا حاذِقٌ خفيٌّ، أو ماهرٌ نقيٌّ، أو عالِمٌ تقيٌّ قد علمَ شُروطَها وضوابِطها، ورُموزَها وروابِطها.
يقول صلى الله عليه وسلم : ((لا تقُصُّوا الرُّؤيا إلا على عالِمٍ أو ناصحٍ))(أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه).
ولا تُؤوِّل ما رأيتَه على من هو من علمٍ وحلمٍ قد خلا
سُئِل إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس رحمه الله : أيعبُرُ الرُّؤيا كلُّ أحد؟ فقال رحمه الله : “أبالنبوة يُلعَب؟!”.
ومن أسفٍ؛ أن كثيرًا من الناس قد أسلَسُوا قِيادَهم لبوارِقِ الرُّؤَى تبني أمجادَهم، لا يعبُرُ الرُّؤيا إلا من يُحسِنُها؛ فإن رأى خيرًا أخبرَ به، وإن رأى مكروهًا فليقُل خيرًا أو ليصمُت.
الله أكبر، الله أكبر، ما أحكمَها من عبارة، وما أبلغَها من إشارة!
واكتُم عوارَ الناسِ إن عبَّرتَ
واحذَر من الإعجابِ إن أصبتَ
وغلِّبِ الأرجحَ والأقوى اعتبِر
إذ في المنامِ الخيرُ والشرُّ حضَر
ألا فليُدرِك ذلك الذين ارتبؤوا ثبَجَ الفضائيات بُكرةً وعشيًا، يبتغُون حصدَ الأموال شِبَعًا ورِيًّا، والله عز وجل يقول: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (البقرة: 188).
وقد أتوا شيئًا فريًّا؛ حيث أمطَروا العبادَ بأوهام السرَّاء ومِحَن الضرَّاء التي تؤُزُّ المُسلمَ إلى سيِّئِ التفكير، والتشاؤُم في التدبير.
فكفى استِغفالاً للعوام، وتلاعُبًا بقاصِرات العقول والأفهام، واستِنزافِ الجُيوبِ بتجارة الأوهام؛ فلم يكن من هديِ السلفِ الانتِصابُ لهذا المقام، فضلاً عن الترويجِ له والاتِّجار به عبرَ رسائل الخيالات والأحلام في وسائل وقنوات الإعلام.
وإنك لواجِدٌ في القنوات الفضائية من ذلك ما يتملَّكُك منه العجبُ العُجابُ، وإن تعجَبُوا -يا رعاكم الله- فعجَبٌ هذا التهافُت المذموم والتسابُق المحموم في هذا المجال الموهوم، والله وحده المُستعان.
أيها المُستعبِرون:
توكَّلوا على الله في عزمِكم وجميع الأمور، ولا تصُدَّنكم عن العلياء رُؤى الغرور، فإنها لا تضُرُّ -بإذن العزيز الغفور-؛ لما وردَ في الصحيح المأثور: قوله صلى الله عليه وسلم : ((إذا رأى أحدُكم ما يكرَه فليتعوَّذ بالله من شرِّها -أي: الرُّؤيا- ومن شرِّ الشيطان، وليتفُل عن يساره ثلاثًا، ولا يُحدِّثْ بها أحدًا، فإنها لا تضُرُّه))(رواه البخاري ومسلم).
وبنحوِ هذا الضابط العاصِم يقول الإمام محمد بن سيرين نِحريرُ المُعبِّرين -رحمه الله- : “اتَّقِ الله وأحسِن في اليَقَظة، فإنه لا يضُرُّك ما رأيتَ في النوم”.
ولا يقُصُّ ما رأى على أحد
فلا يضُرُّ عن الهادِي ورَد
أمة التوحيد والاتباع:
مصائرُ الخلق بيد الله -عزَّ اسمُه-، وهي أجلُّ وأعظمُ من أن تُرتَهَن في مرائٍ مشوبة، وتأويلاتٍ بالدرهم مثوبة، على مرأى العالَم وسمعه بما يهتِك أدبَ الكتمان والاستِمهال، ويعسُر دونه التحرِّي في التعبير والاستِفصال.
وإن الإعلام الهادفَ المسؤول هو الوثيقُ الإيمانَ برسالته البنَّاءة، عظيمُ المُغالاة بها، الإعلامُ الذي يُزكِّي الأوراحَ ويرتقي بالأمم إلى الكمال الذي لا تُحدُّ آفاقه، وذلك الذي نصبُو إليه من تأصيل مُجتمعاتٍ ذات قوَّةٍ إيمانية ورجاحةٍ عقلية ومناعةٍ فكرية، تتأبَّى عن الانسِياق في الاستِهلاك والشهرة والابتِزاز؛ بل تتوشَّى بالرَّصانة والوشْي والاعتِزاز.
ولتحقيقِ ذلك لا بُدَّ من تنادي حُرَّاس العقيدة، وحُماة المِلَّة، والأخيار والجِلَّة لمحو فوضَى العابِرين والمُستعبِرين ومغبَّاتها، وضجيجِها ومعرَّاتها، وضبطِها في المُؤهَّلين والأكفاء دون الدُّخَلاء الراكِضين شطرَ الشهرة والأضواء الذين رنَّقُوا سلسالَ هذا العلمِ النَّمير بالتغيير والتكدير، مُتجاسِرين على ما استأثَرَ به العزيزُ القديرُ، وأن تُستنفَرَ المُؤسَّساتُ والطاقاتُ للحدِّ من غُلَواء هذا التيَّار الزخَّار حِيالَ رسُوخنا العقديِّ، وتميُّزنا الاجتماعي، وتُراثِنا الثقافيِّ، ورخائنا واستقرارنا الأمنيِّ، وإنقاذ المُجتمعات من مُنزلَقٍ قد يكون عميقًا، ولكنه يُوشِكُ أن يكون على طرَفِ الثُّمام حقيقًا.
ما كلُّ ماءٍ كصدَّاءٍ لوارِدِه نعَم
نعم ولا كلُّ نبتٍ فهو سَعدانُ
ولكنَّ الحزمَ مِلاكُ الأمور وأساسُها، وضبطُها نِظامُها ونِبراسُها.
وفَّق الله الجميعَ لصالح القول وصالح العمل، وبلَّغنا أزكى الرجاءِ وأسنَى الأمل، إنه سبحانه على ذلك قدير، وبالإجابةِ جدير.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ، ونفعَني وإياكم بما فيه من الهُدى والبيان، ورزَقَنا التمسُّك بسنة المُصطفى من ولدِ عدنان، وجنَّبَنا الانسِياقَ خلفَ الأضاليل والأوهام، إنه خيرُ مسؤول، وأكرمُ مأمول.
أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المُسلمين والمُسلمات من جميع الذنوب والخطيئات، فاستِغفروه وتوبوا إليه واشكُروه، إن ربَّنا لغفورٌ شكورٌ.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا دائمًا مُتصلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلقَ العبادَ ليبلُوهم أيُّهم أحسنُ عملاً، شهادةً تُبلِّغُ من رِضوان ربِّنا الأمَلا، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه هدانا سُبُل الهُدى والخير ذُلُلاً، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آلهِ البالغين ذُرَى الحق لا يبغُون عنها حِولاً، وصحبِه الأُلَى كانوا في التُّقَى أنموذجًا ومثلاً، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، واعتصِموا بحبله المتين عن الآفات والمُلِمَّات، واحذَروا التشبُّث بأضغاث الأحلام والمنامات؛ ففيه الخُلفُ لهديِ خير البريَّات.
إخوة الإيمان:
لا يخفَى على شريفِ علمِكم أن التهافُت اللهيفَ حِيالَ تعبير الرُّؤَى مع الغلُوِّ فيها والتهويل، والتواكُل عليها والتعويل، والخروجِ بها عن سنَن النبوَّة الوسَط إلى حيِّز الشطَط تأذُّنٌ لرواجِ الأباطيل واستِشراء الأقاويل، والافتِئاتِ على شرع الله دون سِنادٍ أو دليلٍ.
ومن احتبسَ عليها عقلَه وروحَه فعن هدي سيدِ الثَّقَلَيْن – عليه الصلاة والسلام – قد حادَ، ولن يبلُغ شروَى نقيرٍ من المُراد.
فيا أيها الحالِمون الواهِمون! ويا هؤلاء المناميُّون! علامَ اللهاثُ صوبَ العابِرين علامَ، فما كانت الأحلامُ أبدًا وقطُّ وعوضُ لارتِقاء النبوغِ والإبداع، وترادُف النِّعَم والإمراع، أو جلبِ الحظوظ والسعادة، والمنازلِ العليَّة السيَادة.
ولو أن الأسلاف الأخيارَ تكأكَؤوا(üü) على هذا المهيَع، وشغَلوا به مُدنهم وبوادِيَهم، ومُجتمعاتهم ونوادِيَهم على ما أنتم عليه لما حقَّقُوا نصرًا، ولما فتَحوا مِصرًا، ولا بلَغوا كمالاً ولا جلالاً؛ فكيف تُريدون نُكوصًا عنهم واختِلالاً، وهم الذين عاصَروا التنزيل، وشهِدوا التأويل؟!
فهل ضعُفَت الهِمَم إلى حدِّ إشغال الأمةِ بالمنامات والحُلوم عن مراقِي السعود في المعارِف والعلوم، غيرَ أن هذه الذِّكرى ليست اتهامًا للأشخاصِ والمقاصِدِ والنيَّات، فعلمُها عند ربِّ البريَّات، ولكنها نِذراةٌ بخُطورة هذه التصرُّفات، واعتِبار الآثار والمآلات.
وإنه نظرًا لتفشِّي هذه الظاهرة، وامتطاءِ فئامٍ من الناس لصهوَتها وهم ليسُوا من أهلها؛ فإن المُؤمَّل إيجادُ مظلَّةٍ شرعيَّةٍ علميَّةٍ مُعتبَرةٍ تتولَّى الإشرافَ على هذه القضيةِ المُهمَّة، فتمِيزُ الأكفياءَ عن الأدعياء؛ حِفاظًا لبَيضَة الدين، وحِراسةً للمِلَّة والديانة، وسُمُوًّا بعقول أبناء الأمة. والله من وراء القصد، وهو المُوفِّقُ والهادي إلى سواء السبيل.
هذا، واعلَموا رحمكم الله أن أحسنَ الكلام وعظًا، وأشرفَه معنًى ولفظًا: كلامُ من أنزلَه تبيانًا وتولاَّه حِفظًا، فقال فيه قولاً كريمًا، من لم يزَل برًّا رحيمًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(الأحزاب: 56).
وقال الحبيبُ المُجتبى والرسولُ المُرتَضى: ((من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا)).
الشيخ عبد الرحمن السديس
—
(ü) خطبة المسجد الحرام – 19 صفر 1433هـ الموافق لـ13 يناير 2012م.
(üü) تكأْكَأ : اجتمع.