ومن خبر أبي إسحاق الجبنياني، الفقيه المالكي جمع الله له العلم والعمل، زيادة على ما رأيناه في العدد السابق مما ذكره عياض ما يلي:
النصح للأهل:
وسمع رحمة الله عليه كلباً ينبح، فقال لأصحابه: هذا الكلب والله أنصح لأهله مني. لأنه يحرس لأهله ويمنع عنهم، وهم يجيعونه ويضربونه. فأنا قد منّ الله علي بالإسلام، وحضني على ما فيه نجاتي، فقصرت ولم أنصح نفسي.
اتهام النفس وتأديبها:
قال أبو عبد الله محمد بن مالك الطوسي: انتسخت من أبي إسحاق كتاباً فيه رقائق، وحكايات، فقلت لولده عبد الرحمن: عسى تلطف به حتى نسمعه منه، فجئناه فقلنا: أصلحك الله نحب أن تقابل هذا الكتاب بين يديك. فقال: افعلا. فلما أخذنا لنقابل، قلنا أصلحك الله تعالى، على من قرأته، أو عن من رويته؟ فأخذ الكتاب من يدي، وقال: انصرف. فقلت له: لو ترك العلماء الرواية لذهب العلم وانقطع الأثر، وأنت تعلم ما جاء فيمن كتم علماً. فقال لي وهو يبكي: أليس في الحديث : “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين؟” فقلت: نعم. فقال: شيخ جبنيانة ليس بعدل، حتى تقبل شهادته على النبي صلى الله عليه وسلم. فانصرفت عنه.
وكان إذا رأى اجتماع الناس -أي عليه- يقول: كانت أمي رحمها الله، خادماً وثمنها كذا وكذا، ويذكر ثمنها نزراً.
زيارة أحمق:
ولما ورد أبو حامد الخراساني إفريقية وصل إلى الجبنيانة، فسلّم عليه. وقال له: جئتك من خراسان زائراً. فقال له الشيخ: إن صدقت فأنت أحمق، وإن قبلت أنا هذا منك، فأنا أحمق منك، كيف تترك العراق ومن بها من العلماء. ثم حرم الله، وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم والشام، ومصر، وتأتي الى المغرب، إلى شيخ بجبنيانة تقول هذا؟ فبكى أبو حامد، وقال له: لو لم تكن هكذا لم آتك.
وكان أبو حامد هذا يقول: رأيت بالمغرب أربعة ما رأيت مثلهم، علي بن محمد بن مسرور الدبّاغ. فلم أرَ أكثر حياء منه. وأبا إسحاق السبائي، فلم أرَ أعقل منه، وأبا الحسن الكانشي، فلم أرَ أظهر حزناً منه. وأبا إسحاق الجبنياني، فلم أرَ أزهد منه.
أخذ النفس بعزائم الأمور :
وكان مع سعة علمه، يأخذ بالجد والاجتهاد، وما يخرجه من الخلاف، ونسي يوماً الإقامة من بعض الصلوات. فلما سلم، قال لمن خلفه: إني نسيت الإقامة، ولا يلزمكم عندي إعادة. وأنا أعيد صلاتي. لأخرج من اختلاف العلماء. فاحتاط لنفسه رضي الله عنه. لأن عطاء ابن أبي رباح، والأوزاعي وغيرهما، يريان الإعادة، على من نسيها. رضي الله عنهم أجمعين، وغفر لهم وبالله التوفيق.
الجهر بالحق، والثقة المطلقة بالله:
قال عمر بن مثنى: كل من أدركت بهذا الساحل من عالم أو عابد، يستتر ويتروى بدينه، خوفاً من بني عبيد، إلا أبا إسحاق، فإنه واثق بالله، فلم يسلمه، ومسك الله به قلوب المؤمنين، وأعزّ به الدين، وهيّبه في أعين المارقين.
وحضر أبو إسحاق جنازة بنت بعض أصحابه، فصلى عليها وانصرف كل من في السوق للصلاة عليها خلفه. فرفع الأمر إلى سلطان الشيعة: معد، وقيل له: إنه مطاع. فأمر بالبرد فخرجوا فيه. فسمع وزراؤه بذلك فأتوه حفاة مشاة يقولون: إنا نخشى الهلاك. ما ظنّك برجل مجاب الدعوة، منقطع عن الدنيا. فرد البرد، وكان -لما صلى على هذه الجنازة- بقربه رجل، فقال: يا أبا إسحاق، الوقت لا يحتمل. فقال له إنّا لم نبلغ درجة الصديقين، حتى نقتل على الحق. فقال له: يا أبا إسحاق، عندي دعاء الخليل، حين ألقي في النار، ودعاء يونس حين التقمه الحوت. فقال له الشيخ: يا مسكين، إن كنت تدعو دعاء الأنبياء، وتفعل فعل الفراعنة، فمن تخادع؟
وصلى مرة على جنازة امرأة، فجيء بجنازة كتامي، كبير. ومعه خلق منهم. فقالوا: الصلاة على هذا الشهيد. فلم يرد عليهم. فلما فرغ من دفن المرأة، انصرف وتركهم وقوفاً بتابوتهم. فافترق أصحابه، ومن معه من حوله. خوفاً أن يضعوا فيهم أيديهم. فلما ذهبوا بجنازتهم، أدركنا الشيخ، وقلنا له: الوقت، كما علمت، وهؤلاء أصحاب السلطان، فأولى بك ألا تخرج للصلاة على الجنائز، فلما أكثرنا عليه، قال: كأنكم خفتم عليّ منهم. قلنا: نعم. قال: اللهم إن كنت تعلم أني أخافهم دونك، فسلطهم عليّ. فأمنّا حينئذ ومشينا معه.
* كل ما ذكرناه هنا انتقيناه من ترجمة أبي إسحاق في ترتيب المدارك للقاضي عياض رحمه الله، وقد ذكر له ترجمة حافلة، يحسن بالقارئ أن يطالعها لما فيها من الفوائد التربوية، والنفحات الإيمانية.
ذ. امحمد العمراوي
من علماء القرويين
amraui@yahoo.fr