1- مفهوم “الهُوية الإسلامية” :
1-1- الهُوية مصطلحا ومفهوما:
الهُوية بضم الهاء، لا بفتحها، خلافا للخطأ المشهور، وكسر الواو غير المشددة وتشديد الياء: مصدر صناعي” من الضمير “هو” زيدت عليه الياء المشددة والتاء لصياغة المصدر كما تقتضيه الصناعة، وذلك للدلالة على الخصائص التي يشير إليها الضمير “هو”.
ويلحظ في تعريفها قديما اتجاهان كبيران:
1-1-1- اتجاه فلسفي:
ولعله الأسبق، وهو الذي يلح على التفرد والتميز والخصوصية. قال الفارابي: “قولنا إنه هو، إشارة إلى هويته وخصوصيته ووجوده المنفرد له الذي لا يقع فيه اشتراك”(1) وجاء في كليات الكفوي أن: “الأمر المتعقل من حيث إنه معقول في جواب ما هو يسمى ماهية، ومن حيث ثبوته في الخارج يسمى حقيقة، ومن حيث امتيازه على الأغيار يسمى هوية، ومن حيث حمل اللوازم عليه يسمى ذاتا”(2)
1-1-2- اتجاه صوفي :
وهو الذي يلح على الغيبية وتركز الحقيقة. قال صاحب التعريفات عن الهو: إنه: “الغيب الذي لا يصح شهوده للغير، كغيب الهُوية المعبر عنه كنها باللاتعيّن. وهو أبطن البواطن” وقال أيضا عن الهوية: إنها “الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق”.
وبذلك تظهر سمتان بارزتان من سمات مفهوم الهوية: التميز، وتضمن المقومات.
وهما، متكاملين، أساس مفهوم الهُوية اليوم على اختلاف استعمالاتها” إذ مدار الأمر على مجموعة المقومات الأساسية المكونة للخصوصية المميزة لكيان ما على آخر. فحيثما وجدت المقومات المميزة لكيان ما، وجدت الهوية، سواء كانت هوية وطنية، أم هوية ثقافية، أم هوية سياسية، أم غير ذلك من الهويات في مختلف الاستعمالات.
والإضافة الجوهرية البارزة في الاستعمال المعاصر للهوية هي في تفصيل موضوع المقومات: أي المكونات الأساسية التي يمثل التميز فيها مناط الخصوصية للهوية. وأبرزها ستة:
الدين، واللغة، والثقافة، والجنس، والأرض والتاريخ.
وفيها الأصل وفيها الفرع، وفيها الأهم وفيها المهم (حسب الهويات الدينية أو الطينية أو المركبة منهما).
فهل الهُوية الإسلامية تقوم على كل ذلك؟
وما المقصود بالهُوية الإسلامية قبل ذلك؟
1-2- مفهوم “الهُوية الإسلامية” :
لا جرم أن “الهُوية الإسلامية” اصطلاح مركب من عنصرين: عنصر “الهوية” الموضوع، وعنصر “الإسلامية” الوصف القيد.
وبما أن “الهوية” -كما تقدم- هي “مجموعة المقومات الأساسية المكونة للخصوصية المميزة للكيان”، وأن “الإسلامية” وصف يقيد تلك الهوية، ويحصرها في إطار الإسلام فقط دون سواه، فإن “الهُوية الإسلامية” ستكون لا محالة: “هي مجموعة المقومات الأساسية المكونة للخصوصية المميزة للكيان الإسلامي فردا كان أم أمة”.
وتلكم لا شك هي:
أولا: الإسلام دين الله جل جلاله الذي لم تعرف البشرية دينا لله سواه، ولا يقبل الله تعالى من خلقه دينا سواه {أفَغير دين الله تبغون وله أسلم من في السماوات والارض طوعاً وكرهاً وإليه ترجعون}(آل عمران : 82) {ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخاسرين}(آل عمران:84). هو الذي على أساسه، وحيا ربانيا: قرآنا وسنة، تشكل الفرد المسلم في أول مرة فكان هو ما هو، وكذلك يكون يوم يتشكل على أساسه في أي مرة. وهو الذي على أساسه تشكلت الأمة المسلمة في أول مرة، فكانت هي ما هي. وكذلك تكون يوم تتشكل على أساسه في أي مرة. إنه الأساس الأعظم والأصل الأكبر للهوية الإسلامية” إليه يرجع كل ما سواه وعليه بُنٍِي ويبنى كل ما سواه.
ثانيا: اللغة العربية وقد اختارها الله جل جلاله لكتابه، ورفع ذكرها بذكره، ونشرها بانتشاره، وخلدها إلى الأبد بخلوده” إذ لولا القرآن العظيم الذي تكفل الله جل جلاله بحفظه، لكانت اللغة العربية اليوم في خبر كان، ولكانت ضمن اللغات البائدة التي عفى عليها الزمان. فهي فرع على أصل، ولكنها مقوم ضروري من مقومات الهُوية الإسلامية” إذ كيف يفقه مسلم دينه دون العربية؟ وكيف يتصور توحد الأمة المسلمة على لسان غير العربية؟
ألا ليت المسلمين في أدنى الأرض وأقصاها يعلمون أن العربية من الدين! فيسارعون أفرادا إلى تعلمها حبا في الدين، ويسارعون دولا إلى تعليمها، فتقريرها لسانا رسميا للدولة، تسريعا لوحدة المسلمين.
ثالثا: التراث المستنبط من الوحي أو الخادم له” إذ هو خلاصة تفاعل الأمة المسلمة مع التاريخ وفي التاريخ، وهو ممثل كسبها وإسهامها الحضاري في مختلف المجالات. إنه مَجْلى الذات وخزان الممتلكات، ولا يمكن أن نعرف الذات إذا لم نفقه التراث
وهذه الثلاث هي الشق المعنوي من المكونات. ومن بعدها يأتي:
رابعا : التاريخ الذي هو الظرف الزماني المشترك للمسلمين. ثم:
خامسا: الأرض: التي هي الظرف المكاني المشترك للمسلمين. وهما معا الممثلان للشق المادي من المكونات” وبدونهما لا تمثُّل للذات في الواقع، ولا تشخُّص للشق المعنوي من المكونات في فرد أو أمة داخل الزمان والمكان
2- الأمة الإسلامية اليوم بين ضغط الـواقـع الـمشهود وجذب الـموقع الـمـنـشـود :
1-2- موقع الأمة المنشود:
لا جرم أن هذه الأمة هي خير أمة أخرجت للناس، قال تعالى: {كُنتم خير أمة اخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون بالله}(آل عمران :110) وقال جل من قائل : {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}(البقرة:142) “فموقع الأمة هو الشهادة على الناس، وهو جعل من الله رب الناس، ملك الناس، إله الناس، كما جعل آدم في الأرض خليفة، وكما جعل إبراهيم إماما للناس، وكما جعل البيت مثابة للناس، وكما جعل وجعل…”(3).
ومقتضى هذا أن تكون هذه الأمة إماما للناس، وأن تكون لها الريادة والقيادة والسيادة على الناس، وأن تكون السباقة إلى كل ما به يكون التمكن في الأرض، مما ينفع الناس ويمكث في الأرض، لتقيم القسط بين الناس، وتمنع العلو والفساد في الأرض.
لكن هل يمكن أن تكون كذلك، قبل أن تستجمع الشروط اللازمة لذلك؟ هل يمكن أن تكون كذلك قبل أن تكون:
أولا: أمة، تؤم جميعها، أفرادا وشعوبا، ما أمرها الله جل جلاله أن تؤم، وتأتم جميعها بما وبمن أمرها الله جل جلاله أن تأتم، ويؤمها إمام واحد لا غير، هو الأحق في ميزان شرع الله جل جلاله أن يؤم.
ثانيا: وسطا” أي “خيارا عدولا”” إذ كيف يتوسط غير الخيار؟ وكيف يشهد غير العدول؟ إلا إذا انقلبت الموازين. وبُدِّلت فطرة الله التي فطر الناس عليها، وغُيِّر خلق الله إبرارًا لقسم الشيطان: {ولأضلنهم ولأمنينّهم ولآمرنهم فليبتّكن آذان الانعام ولآمرنهم فليغيرنّ خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليّا من دون الله فقد خسر خُسرانا مبينا}(النساء: 118) فـ “لا وسطية بغير خِيرَة، كما نصت الآية الأخرى: {كُنتم خير أمة أخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون بالله}(آل عمران:110). ولا خيرة بغير قوة وأمانة {إن خير من استاجرت القوي الامين}(القصص:26). وإنما توسد الأمانة للأقوياء لا للضعفاء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة” (أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها).
ومع ذلك، كل ذلك لا يكفي لأداء الشهادة، إذ لابد من الشهود أي الحضور لأداء الشهادة. وحين تكون الشهادة بالخيرة” أي بالحال أساسا قبل المقال، ومن أمة لا من أفراد، وعلى الناس جميعا لا على بعضهم، فإن الشهود والحضور لابد أن يكون حضاريا، أي حضورا بالإمامة في كل المجالات، وعلى جميع المستويات، وفي كل الأوقات.(4)
ذلكم هو موقع هذه الأمة العلي. فهل واقعها المشهود كذلك؟ كلا ثم كلا.
2-2- واقع الأمة المشهود:
إن الأمة للأسف اليوم في مؤخرة الناس، بدل أن تكون في مقدمة الناس، بل إنها حسب واقعها يصعب أن يصدق عليها لفظ الأمة، إنها أشبه ما تكون ببقايا أمة، إنها أشلاء أمة وقطع غيار أمة متناثرة على وجه الكرة الأرضية يعتورها الضعف من كل جانب:
ضعف القوة بجميع أنواعها: العلمية والإعلامية والاقتصادية والعسكرية، والسياسية وغيرها
وضعف الأمانة بمستوييها الكبيرين اللذين أمرها الله جل جلاله بهما في كل شيء: العدل والإحسان.
وإن كان لها من قوة فهي قوة القابلية للتبعية، قوة “القابلية للاستعمار” بتعبير مالك بن نبي رحمه الله تعالى، قوة المسارعة في الخضوع والدوران في فلك الآخر القوي رغبا أو رهبا على حساب الدين” كأنها المعنية بقول الله تعالى: {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تُصيبنا دائرة فعسى الله أن ياتي بالفتح أو امر من عنده فيصبحوا على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين}(المائدة :52) وكأنها غير المخاطبة بقول الله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل ان هُدى الله هو الهُدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العِلم مالك من الله من ولي ولا نصير}(البقرة:120).
أمة هذه حالها لا بد أن تتداعى إليها الأكلة من كل حدب وصوب، لابد أن تكثر عليها الضغوط، وتتزاحم عليها الأطماع، لا سيما وأن قصعتها من أوسع القصاع، وأغنى القصاع، وأشهى القصاع!!
ومن شأن الضغط أن يولد الانفجار كما يقال، ومن شأن الفعل أن يولد رد الفعل. ولذلك كان لابد من تدافع بين من يستجيب لضغط الواقع ومن يستجيب لجذب الموقع.
2-3- تدافع ضغط الواقع وجذب الموقع:
في الخارج عولمة تفغر فاها لتبلع، وفي الداخل رؤوس تخشى بأسها فتخضع وتركع، وبالقواعد خلايا حية، يستفزها الواقع ويجذبها الموقع فتتكاثر وتدفع، وبين كل ذلك، التدافع على أشده تدافعا ينذر أقواما بشر، ويبشر آخرين بخير. {ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العالمين}(البقرة :251)
فما هو واقع هوية الأمة في ظل هذا التدافع بين العولمة والتعولم من جهة، ومن يواجه العولمة والتعولم من جهة ثانية؟
3- واقع الهُوية الإسلامية للأمة في ظل منظومة العولمة :
3-1- طبيعة الإسلام وطبيعة العولمة :
1-1- “العولمة أضخم غول، وأشرس غول، أمكن لعبدة العجل إنتاجه: رأسه رأس عجل جسد له خوار. وجذعه الذي يحمل رأسه ويغذيه، التكتلات والشركات المتعددة الجنسيات العالمية الضخمة، وأذرعه التي يبطش بها البنوك والمنظمات الدولية” كالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومجلس الأمن وغيرها. وأسلحته ذات الرؤوس النووية المدمرة للحضارات والثقافات والديانات هي المصطلحات. أجل، المصطلحات” بها يهيئ الأجواء، في الأرض وفي السماء، وبها يخيف الضعفاء والأقوياء على السواء، وعلى أساسها يقرب البعداء ويبعد الأقرباء، وحماية لها -بزعمه- يضرب ما يشاء، بما يشاء، كما يشاء، في الزمن الذي يشاء، والمكان الذي يشاء، وكأن حاله يقول: أنا ربكم الأعلى، أوليس لي ملك الأرض، وهذه الشعوب تبكي من تحتي؟
ومن أبرز تلك المصطلحات التي أعدها ويعدها لسحق ومحق الديانات والثقافات والحضارات، تمكينا لدين العجل، وثقافة العجل، وحضارة العجل: مصطلح حقوق الإنسان، ومصطلح الشرعية الدولية، ومصطلح الديمقراطية، ومصطلح النظام العالمي الجديد الذي تطور حسب المرحلة إلى العولمة. ويلحق بها، مما هو دونها، كثير…”(5)
3-1-2- أما الإسلام فهو رحمة الله تعالى المهداة إلى عباده” أنزله قرآنا فكان شفاء ورحمة للمؤمنين، وأرسله رسولا فكان رحمة للعالمين، وجسَّده أمةً وسطًا فكانت خير أمة أُخرجت للناس:
أَخرجت الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد
وأخرجت الناس من جور الأديان إلى عدل الإسلام
وأخرجت الناس من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة
تسارعت إليه شعوب الأرض، وعضت عليه بالنواجذ مذ عرفته، وتسابق إليه الخيار من كل الأقطار ولا يزالون، يحملونه أحيانا أقوى وأشد مما حمله إليهم الحاملون. وما خبر علماء الأمصار غير العربية في مختلف العلوم كالبخاري ومسلم بخفي، ولا خبر فاتحي الأندلس والقسطنطينية بسر. وما ذلك إلا لأنه{فِطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم}(الروم :30) وإلا لأن الناس فيه سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربيهم على عجميهم ولا لعجميهم على عربيهم إلا بالتقوى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكْرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير}(الحجرات:13)
3-1-3- وبمقارنة سريعة بين الطبيعتين يمكن أن نلحظ فروقا كثيرة منها:
1- من حيث المصدر: الإسلام رباني فهو مَجْلًى لكمال الله جل جلاله جمالا وجلالا
والعولمة بشرية فهي مَجْلًى للنقص البشري حالا ومآلا.
2- من حيث المرجعية: مرجعية الإسلام شرع الله تعالى
ومرجعية العولمة الشرعية الدولية أو شرع الأقوى
3- من حيث المنطلق: الإسلام عالمي، بدأ تطبيقه محليا
والعولمة محلية بدأ تعميمها عالميا
4- من حيث الهدف: هدف الإسلام إقامة القسط بين الناس
وهدف العولمة السيطرة على المال الذي عند الناس.
5- من حيث الوسائل: في الإسلام لابد من شرعية الغاية والوسيلة معا
وفي العولمة الغاية تبرر الوسيلة.
3-2- واقع المكونات المادية للهوية:
3-2-1- أما الأرض، وهي التي تسمى، في جغرافية العصر، بالعالم الإسلامي، فهي ممزقة شر ممزق” فيها الرقع الكبيرة، والمتوسطة، وفيها الصغيرة التي لا تكاد ترى على الخريطة إلا بالمجهر. وكلها نَصَبَ لها صانعها الغرب الرايات، وحد لها الحدود التي لا تتجاوز في الغالب إلا بتأشيرات، وخصص لسكانها البطاقات الوطنية والجوازات، وأقام فيها أشكالا من الأنظمة والحكومات، وكأنها أمم شتى لا أمة واحدة، ولها أديان شتى لا دين واحد، وتصلي لقبلات شتى لا لقبلة واحدة،….
فإلى الله المشتكى من افتراق ما أصله الاتفاق، واتفاق ما أصله الافتراق.
3-2-2- وأما التاريخ وليس بأحسن حالا من الجغرافية، فقد صار تبعا للجغرافيا تواريخ، لكل رقعة تاريخها، بل تواريخها أحيانا حسب درجات التمزق، وما زال الغرب يطمع في “تحسين الحال”! لينال أكثر مما نال، وما زال يطمع ويسعى بأقصى الجهد “لتفتيت المفتت” كما يقال، وفي كل رقعة للأسف سماعون له.
لقد “جذَّر” الجذور، ونبش القبور، وحفر الحفريات، و”سلَّل” السلالات، ليضع لكل رقعة تاريخا خاصا بها، قبل الإسلام، وهوّل الاختلاف وهوّن الائتلاف، وغلَّظ الجزئيات ورقَّق الكليات، وفتَّش في أضابير العصور عما يبعثر ما في القبور ويفسد ما في الصدور، ليقوم له في كل رقعة كيان ما بعد الإسلام.
ولقد كان للغرب، بما كسبت أيدينا ما أراد، فنودي على الأعراق المنتنة، وظهرت النعرات القومية والوطنية والقبلية، واستغلظ أمر اللهجات، واستعلن واستعلى شأن المفهوم الضيق والسيئ للتراث.
هذا واقع المكونات المادية للهوية في الأمة اليوم فما هو واقع المكونات المعنوية؟
3-3- واقع المكونات المعنوية للهوية :
3-3-1- الإسلام دين الله تعالى الذي رضيه لعباده جميعا وواقعه في الأمة يعرف بحال الأمة” ذلك بأن الله تعالى ليس بظلام للعبيد، وقد جعل العزة للمؤمنين، والنصر للذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وأخبرهم أنهم الأعلون إن كانوا مؤمنين. ومن أصدق من الله حديثا.
لكن بقايا الأمة اليوم في غاية الذلة، ومنصور عليهم من ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله، ولا يكون ذلك إلا بحبل من الله. وإذن فهو تسليط عدوهم عليهم، وإذن فهو عقوبة من ربهم حتى يراجعوا دينهم. وإذن فهو الغضب والمقت والخزي. ولا يكون ذلك إلا بتفريط غليظ في جنب الله ودين الله. فهل يتوب المسلمون جميعا إلى الله توبة نصوحا.
لقد أُبعِد أصل الدين الذي هو الوحي كتابا وسنة عن المرجعية في أغلب الأمة، وأبعدت العلوم المستنبطة منه تدبيرا للشأن العام والخاص عن الحكم في أغلب الأمة، واعتديت الحدود وعطلت الحدود وصار الناس أغلب الناس في الأمة يقولون مالا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
3-3-2- العربية لسان القرآن الكريم وواقعها في الأمة يعرف بواقعها في التعليم، والإعلام، والإدارة، في جميع أقطار العالم الإسلامي. ولم يصح أنها صارت لغة لكل التعليم الرسمي بجميع مراحله، ولغة للإعلام والإدارة، إلا في قطر واحد من تلك الأقطار! هو سوريا نسأل الله لها الثبات.
فمتى يتعرَّب لسان كل الدول العربية التي جعلت لغتها الرسمية هي العربية؟ متى يتعرب تعليمها كله، وإعلامها كله، وإدارتها كلها؟
ومتى تتخذ بقية الأقطار الإسلامية اللغة العربية لغتها الرسمية؟
ومتى يتعرب اللسان متوحدا في واقع جميع أقطار أمة القرآن
ألا إن العربية من الدين
ألا إن العربية من الدين
ألا إن العربية من الدين.
3-3-3- التراث الممثل في العلوم الشرعية والإنسانية والمادية التي أنتجها المسلمون. وواقعه في الأمة يعرف بواقعه في التعليم والإعلام والقضاء. وهو قبل ذلك فيه المعد علميا، وقليل ما هو، فهو موثق محقق مكشف. وفيه غير المعد وهو نوعان: مطبوع وهو الأقل، وأغلبه يحتاج إلى إعادة تحقيق، ومخطوط وهو الأكثر” وكله يحتاج إلى طبع ونشر. ومراكز وجوده في العالم لما تحصر، وما فُهِرِس منها محتاج إلى مزيد تدقيق ونظر. وهذا وحده كاف للدلالة على سوء الحال.
فإذا أضيف إعراض التعليم العام الرسمي عنه في أغلب الأقطار.
وقلة التفات الإعلام إليه بجميع أنواعه.
وانحساره وانحصاره في القضاء داخل الأحوال الشخصية أو قضاء الأسرة، في أغلب الأقطار.
إذا أضيف ذلك ومثله، تبين لماذا يتحدث متحدثون عن خطورة “القطيعة” مع التراث، ولماذا ينشئ آخرون مراكز وجمعيات لـ”إحياء التراث”، ولماذا يلح آخرون على ضرورة الانطلاق من التراث لإعادة بناء الذات.
4- المستقبل المتوقع للواقع بمعزل عن جاذبية الموقع :
4-1- ازدياد تدهور المكونات المادية:
وهو يتمثل جغرافيًا في مزيد من تفتُّت المتفتت، نتيجة للألغام التي زرعت وتزرع، والإشكالات التي اختلقت وتختلق، واستغلالا للتناقضات المذهبية والطائفية والعرقية في الأمة” من شيعة وسنة، وصوفية وسلفية، وأكراد وعرب، وغير ذلك. فضلا عن مفهوم “الوطنية” الذي فَتَّتَ قبلُ مفهومَ الأمة، ومفهومِ “الجهوية” الذي يهدد بعدُ بتفتيت مفهوم الوطنية. والبقية تأتي!
هذا عن مكوِّن الأرض
أما مكون التاريخ -والجغرافيا تصنع التاريخ كما يقال- فتدهوره متمثل في مزيد من الإلحاح على التواريخ الوطنية والجهوية الضيقة للشعوب الإسلامية كما سموها” إما بالاقتصار عليها فقط، أو بالتركيز عليها مع إشارة أو إشارات إلى تاريخ المسلمين أو بعضهم في العالم.
وهذا واقع في أغلب أقطار العالم الإسلامي وسيزداد.
4-2- ازدياد تدهور المكونات المعنوية: وهو يتمثل:
في الدين: بإزاحة أو إزالة ما ينافي العولمة من مبادئ وأفكار ونصوص، ولو كانت وحيا، بالتدريج” ولاسيما في المجالات الحساسة لدى العولمة كالتعليم والإعلام، والاقتصاد والسياسة.
وفي اللغة بالتمكين للغات الغربية ولاسيما الإنجليزية، وإضعاف اللغات الأمهات في الأقطار الإسلامية، ولاسيما العربية، وتشجيع المزاحِمات المحلية كاللهجات، وتقويتها وترقيتها إلى درجة اللغات، بعد ترميمها أو تصنيعها في المختبرات.
وفي التراث العلمي بالتمكين للحديث، وتغليظه، أو الاقتصار عليه في مختلف العلوم، والترويج للحداثة ودق طبولها في كل مجال، مما يشكل قطيعة أو ينذر بقطيعة مع التراث.
والويل كل الويل حضاريا، لمن نبذ التراث أو نبذه التراث.
4-3- قطع طريق العودة بتغيير المفهوم أو المصطلح:
وإنما مدار عمل الشيطان وحزبه، مذ إبليس إلى قيام الساعة، على محاولة تغيير المفهوم وتبديل المصطلح، أي تغيير الدين، والفطرة، والخلق، {ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الانعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خُسرانا مبينا}(النساء:119) وفي الحديث القدسي: (خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم…) (أخرجه مسلم في كتاب الجنة، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار).
وما الجهود التي بذلها المستكبرون في الأرض، المعبِّدون الناس للطاغوت، قديما وحديثا، إلا صور من تلك المحاولات لتغيير المفهوم وتبديل المصطلح.
وهذا فرعون ومؤمن آل فرعون في القديم، يتنازعون مفهوم مصطلح “سبيل الرشاد”
{قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرّشاد}(غافر: 29)
{وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد}(غافر: 38).
وها هو اليوم مصطلح شريف كالجهاد، يغير مفهومه المتكبرون في الأرض، ويبدلون مصطلحه ليصير إرهابا، بعد أن غيروا مفهوم الإرهاب ليصير فعلا بعد أن كان حالا، ومكروها بعد أن كان مطلوبا.
“وكذلك الأمر في أغلب المصطلحات التي تقوم عليها الحياة” كالخير والشر، والعدل والظلم، والحق والباطل، والسلام والإجرام،.. غير مفاهيمها العالون في الأرض، أصحاب الأهواء، ولووا أعناقها كما لوى فرعون عنق مفهوم الفساد، وهو يقول عن موسى عليه الصلاة والسلام وقال {فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربّه إني أخاف أن يبدل دينكم وأن يُظهر في الارض الفساد}(غافر:26).
وكأني بجميع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين في المنطق الإبليسي مفسدون، وكأني بهم في المصطلح الإبليسي المعاصر إرهابيون.
ألا ما أحوج الأسماء كلها التي عُلِّمها أبونا آدم عليه الصلاة والسلام إلى من يصونها ويحميها” بحراسة مفهومها، وصيانة استعمالها وتنزيلها.
وألا ما أحوج الأرض اليوم إلى من يقيم فيها مصطلح الذكر كما أنزل، لتستدير من جديد كهيأتها يوم خلق الله السماوات والأرض، ويقام الميزان والوزن بالقسط، فيقال للحق حق، وللباطل باطل.
ألا إن شأن المصطلح العام لعظيم، وتغييره أو تبديله مما يحسبه الناس هينا وهو عند الله عظيم، ومسه بسوء مس بالنظام العام للكون والحياة والإنسان.”(6)
ومن تلك المصطلحات التي تُنفَق في تغيير مفهومها الأموال، وتُسهَر من أجل تعديل لفظها الليالي لدى المعَوْلِمين: مصطلح الهوية
فقد اخترعوا ما سموه بـ”الهُوية الكونية” للقضاء على كل الهويات الخاصة ومحوها.
واختلقوا ما سموه بـ”المواطنة الكونية” لإنهاء كل الوطنيات الصغرى. وهم إنما عَوْلَموا هويتهم ووطنيتهم على حساب جميع الهويات والوطنيات، كما تبتلع الشركات الضخمة العالمية بقية الشركات في مختلف الاختصاصات.
جاء في مجلة “رسالة التربية الوطنية” التي تصدرها وزارة التربية الوطنية بالمغرب العدد6-أبريل 2006 ص 18 تحت عنوان: “المفكر الفرنسي ادغار موران – إصلاح المنظومة التربوية والثقوب السوداء” وهي محاضرة ألقاها بعد تعيينه من قبل وزارة التربية الوطنية عضوا في اللجنة الدائمة للبرامج: “أحصى موران في نظام التعليم والتربية ما أسماه “سبع ثقوب سوداء” ينبغي التفكير فيها ومعالجتها باعتبار أنه لا يمكن إصلاح المؤسسات دون إصلاح العقول ولا يمكن إصلاح العقول دون إصلاح المؤسسات…
وبخصوص الثقب الأسود السادس، أكد السيد موران على ضرورة تفسير ما يحدث في العالم، وتأكيد أن البشر يعيشون في العالم ذاته، ويقاسون من المشاكل ذاتها، ونشر الوعي بالانتماء لعالم واحد يعاني من مشاكل واحدة من قبيل مشاكل البيئة وأسلحة الدمار الشامل، ومن ثمة ضرورة خلق هوية جديدة فوق الهويات المحلية.
وأكد المفكر الفرنسي على أهمية تلقين التاريخ خاصة في إطاره الشمولي أو ما يصطلح عليه “بالتاريخ الكوني” والذي يمكن تقسيمه حسب موران إلى ثلاث مراحل: مرحلة الانتشار الكوني للبشر في كل القارات، تليها مرحلة اكتشاف أمريكا والدوران حول الأرض أو ما يصطلح عليه بالحقبة الكونية بكل إيجابيتها وسلبياتها كالعبودية والاستعمار، ليخلص إلى المرحلة الحالية وهي مرحلة العولمة.
وفي الختام دعا السيد موران إلى التصدي لهذه الثقوب بالحديث عن أخلاق النوع البشري بما يعنيه ذلك من تقابلات بين الفرد والمجتمع وما يستلزمه من تعليم الديموقراطية والحوار الديموقراطي و”المواطنة الكونية” اعتبارا لكون الإنسانية الكونية قدر الكوكب الأرضي”.
5- المستقبل المتوقع للواقع متأثرا بجاذبية الـموقع :
لا جرم أن الفعل يقتضي رد الفعل، وأن الهجوم والظلم يستدعيان الدفاع والرد {ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العالمين}(البقرة: 249) {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبتغون في الارض بغير الحق أولئك لهم عذاب اليم}(الشورى : 38 -39).
وما كان لأمة، حُمِّلت أمانة الشهادة على الناس إلى يوم القيامة أن تموت، وما ينبغي لها. وإلا فمن يشهد على الناس بعد محمد صلى الله عليه وسلم جيلا بعد جيل، حين تشرق الأرض بنور ربها، ويوضع الكتاب، ويجاء بالنبيئين والشهداء.
لابد من خلايا حية لا تموت، تمثل استمرار الحجة والحق الذي أنزله الحي الذي لا يموت. لابد من أحياء يغْشَى أبصارَهم ما يغشى من أنوار الموقع فيسارعون إلى الرضوان غير مكترثين بآلام الواقع. ولقد بدأت الأمة منذ سنين، في إعادة صنع الغُرّ المحجَّلين، فوجب أن يكون لأنوارهم آثار في ليل العولمة الذي يوشك أن يُطْبِقَ، وخطرها الذي إن لم يكن قد أحدق فإنه يوشك أن يُحْدِق.
ومن تلك الآثار المتوقعة:
5-1- تعاظم التشبث بالمكونات المعنوية للهوية:
في الدين: ستتعاظم المناداة بالتمكين للوحي كتابا وسنة، في مختلف المجالات” في القطاع الخاص أولا، ثم في القطاع العام ثانيا” تبعا لتعاظم قاعدة التائبين المتوقع، أو النابتين في بيئتها الجديدة.
وفي اللغة: سيزداد الطلب على العربية، وسيزداد الاهتمام بها في العالم الإسلامي” تبعا لتزايد الاهتمام بالدين لدى عامة المسلمين” إذ إتقان العربية من الدين، ولا فقه ولا استنباط من أصول الدين، إلا بإتقان العربية التي هي لسان الدين.
وفي التراث العلمي: ينتظر اشتداد الإقبال على علوم التراث في مختلف المجالات، للوصل الحضاري، والاستعداد للإبداع داخل الرؤية الخاصة للأمة.
5-2- تعاظم الطلب للمكونات المادية للهوية:
جغرافيًا: سيتعاظم الضغط لتصحيح ما أمكن من أنواع الجغرافيا: الاقتصادية والسياسية والثقافية وغيرها، على أساس التقارب بين أقطار الأمة، لتوسيع دائرة المشترك، في أفق ظهور تجربة جديدة لوحدة الأمة الإسلامية” تأخذ خير ما في التجارب البشرية الحديثة، وتدع شر ما فيها. ومن ذلك مثلا شكل الولايات المتحدة الإسلامية.
والضغط الداخلي والخارجي معا، يدفعان في هذا الاتجاه.
وتاريخيًا: ستكثر البحوث والدراسات المصححة لتصوُّر تاريخ الأمة الشامل، المنقّية له مما ران عليه من تشويهات، أعدّها ورسَّخها الغرب بشقيه: الليبرالي الأزرق، والاشتراكي الأحمر.
وذلك استجابة للضغطين أيضا:
الداخلي الناهض من القواعد،
والخارجي المصبوب من السماء عولمةً نارًا تسعى للإتيان على الأخضر واليابس من الخصوصيات والهويات.
5-3- خروج الهُوية الإسلامية سالمة غانمة من نار العولمة:
قال تعالى: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أبمة ونجعلهم الوارثين ونُمكن لهم في الارض ونري فرعون وهامان وجنودهم منهم ما كانوا يحذرون}(القصص : 4- 5) وقال سبحانه: {قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الاخسرين}(الأنبياء: 68- 69).
العولمة فيما يظهر هي المخصب الأكبر للأورانيوم الخام للأمة الذي ينشِّطه ويجعله منتجا للطاقة الهائلة اللازمة لعودة الأمة “أمة وسطا” و”خير أمة أخرجت للناس” من جديد. وما أحوج حكماء الأمة أولي الأيدي والأبصار، إلى أن يتفكروا ثم يتفكروا في أسرار الأقدار، ليستيقنوا أن في طيات النقم النعم، وأن كيد الله ومكر الله أعظم، وأن الاستضعاف موذن بالاستخلاف، وأن الأمر فقط يحتاج إلى يقين وصبر {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}(السجدة :24)
إن الأمة ستخرج بفضل الله تعالى سالمة غانمة من نار العولمة كما خرج إبراهيم عليه الصلاة والسلام سالما غانما”؛ أموات الأمة سيرحلون، وأحياؤها سيكثرون. وكلما اشتدت الأزمة اقترب الفرج. وليس بعد الصبر على البلاء إلا التمكين.
6- شرـوط الانتقال مـن الـواقع إلى الـموقـع :
“هذا الموقع العلي، كيف يتصور المسير والمصير إليه من هذا الواقع الدني؟ كيف تنتقل الأمة الأشلاء من مشهودية الواقع إلى شاهدية الموقع؟ كيف تنتقل من الجمود والجحود إلى الاجتهاد والشهود؟ كيف وكيف وكيف؟…” (7)
“عبثا نحاول إصلاح الحال قبل إصلاح العمل، وعبثا نحاول إصلاح العمل قبل تجديد الفهم، وعبثا نحاول تجديد الفهم قبل تجديد المنهج…
وما أشق ذلك في الأمة اليوم!! لكثرة الموانع وقلة الأسباب” فكم من ترسُّبات منهجية فاسدة، أفرزتها وراكمتها قرون الضعف والانحطاط في الأمة، لا تزال مستمرة التأثير!، وكم من مقذوفات منهجية، صبَّها الغرب صبًّا على رؤوس نابتة الأمة، أو نفثها في روعِها، فهي فاعلة فيها فعل السحر!، وليس في الواقع -للأسف- اتجاه عام، أو شبه عام، إلى صنع كواسح الركام والألغام، ولا اتجاه جاد، أو شبه جاد، إلى تصنيع ما يخلص العباد من سحرة فرعون ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد”.(8)
إنه لابد من تحقيق شروط الانتقال ليتم الانتقال. وعلى رأس ذلك:
6-1- عودة الروح للأمة لتعود إليها الحياة وخصائص الحياة، وإنما روح الأمة الإسلامية القرآن الكريم” فهو الذي به تُسْتَدْعَى أشلاؤها لتأتي سعيا، مكونةً الكيان الأول للأمة، كما حدث لإبراهيم عليه السلام مع أجزاءِ أربعةٍ من الطير حين دعاها باسم الله تعالى.
كل النداءات لا تسمعها الأمة، ولا تستجيب لها الأمة، لاسيما وهي بقايا وأشلاء، إلا نداء القرآن العظيم. قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من امرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}(الشورى: 50) روحا إذا حلت في الأفراد جميعا جمعتهم في جسد إيماني واحد فرد، له كل خصائص الحياة التي تكون في الجسد الواحد الفرد.
“إن روح القرآن إذا نفخت في الأمة أثمرت فيها كل وظائف القرآن: وظيفة الحياة، ووظيفة النور، ووظيفة الهداية، ووظيفة الخروج من الظلمات إلى النور، ووظيفة الشفاء، ووظيفة الرحمة”.(9)
هذا الشرط الموجَب الذي يقتضي وجود السبب،
وهناك الشرط السالب الذي يقتضي انتفاء المانع. وهو:
6-2- التخلص من مانع الجسدية الضيقة أو داء استقلال الأجزاء الذي يحرص كل الحرص على الحدود، والجوازات، والتأشيرات، والرايات، إلى غير ذلك من القيود المانعة من حصول المقصود. كيف والرب واحد! والرسول واحد! والكتاب واحد! والقبلة واحدة! والشعائر واحدة! والأراضي لولا الحدود واحدة؟!!!
إن روح القرآن العظيم إذا تمكنت من أبناء الأمة كافية للشفاء من هذا الداء العياء، فليجتهد الأحياء في كل مكان، في التمكين للقرآن في قلب الإنسان.
6-3- اليقين والصبر بنوعيهما:
يقين القدرة الذي جعل موسى عليه السلام يمسك العصا ثم يلقي العصا
ويقين النصرة الذي جعله يقول، والبحر أمامه، وفرعون بخيله ورَجْله وراءه، وأصحابه مستيقنون أنهم مُدْرَكون: {قال كلا إن معي ربي سيهدين}(الشعراء:62)
وكلا اليقينَيْن كان وراء قول الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه وقد رأى أقْدام الكفار في باب الغار: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما.
وصبر الكفّ الذي يُمتحَن فيه المؤمن بالمنع من الرد، وإن كان قادرا” لعدم دخول الوقت {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلواة وءاتوا الزكاة}(النساء :76)
وصبر الصفّ الذي يَحْرُم فيه التولّي يوم الزحف، {إلا متحرّفا لقتال أو متحيزا إلى فئة} قال تعالى {إن الله يحب الذين يُقاتلون في سبيله صفا كأنهم بُنيان مرصوص}(الصف:4).
7-مـستعجلات الإنـقـاذ :
وهي ثلاثة:
7-1- ضرورة توحيد القبلة للجميع: أفرادا وأقطارا، وهي “الأمة المسلمة” الواحدة” بإقامة التوجه نحوها لإقامتها، عبر المراحل اللازمة، بالأشكال الملائمة، كشكل الولايات المتحدة الإسلامية مثلا.
7-2- ضرورة التعجيل بالحج إلى ذلك” بالتخلص من المخيط والمحيط المانع من الائتلاف، وترك الرفث والفسوق والجدال المشجّع على الاختلاف.
7-3- ضرورة الثبات على الحق حتى يأتي وعد الله الحق. ولله در الوليد الذي قال لأمه: يا أمه اصبري فإنك على الحق.
فيا أمة الإسلام اصبري فإنك على الحق.
وإن غدا لناظره قريب.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
أد. الشاهد البوشيخي
———
(ü) بحث أعد لندوة الإسلام والعولمة التي أقيمت بمسقط عاصمة سلطنة عمان بتاريخ 24-25 أبريل 2006م.
1 – المعجم الفلسفي لجميل صليبا. ج2 ص: 530. دار الكتاب اللبناني بيروت ط1/ 1973م، (عن التعليقات ص:21)
2 – المعجم الفلسفي لجميل صليبا. ج2 ص: 530 (عن الكليات للكفوي )
3 – نحو تصور حضاري للمسألة المصطلحية للشاهد البوشيخي. ص:27 . فاس: 2002.
4 – نفسه ص:27-28 ///5 – نفسه ص:29
6 – نفسه ص:18-19. // 7 – نفسه ص:28.
8 – القرآن الكريم والدراسة المصطلحية للشاهد البوشيخي ص: 10-11. فاس :2002.
9 – القرآن الكريم روح الأمة الإسلامية للشاهد البوشيخي ص:47. فاس:2001 .