{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}
في الحلقات السابقة تناول الشيخ مفهوم الخوف والرجاء وعلاقته بالمحبة وبين أن الطمع فيما عند الله ليس منقصة بل هو محمدة وجمال وأن أسماء الله الحسنى هي أبواب العباد إلى رب العباد وفي هذه الحلقة يتحدث بحول الله عز وجل عن الفرق بين حب الله وحب الأنداد و المحبة المتبادلة بين الرب وبين عبده
بين حب الله وحب الأنداد
ليس عبثا أن يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} (البقرة: 165) {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} (البقرة: 165)، ما معنى يحبونهم؟ الحب ميل القلب، مال قلب المشركين للأوثان، {أَفَرَاَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (الجاثية: 23)، هذه الأهواء مالت أحيانا إلى عبادة أحجار، فتكون الأحجار في مرحلة من المراحل رموزا لطبقية اقتصادية مثلا بسبب مجموعة من الأحجار هيمن على خزينتها شخص ما، يستفيد من مداخيلها، أو مهيمنا على مكانة اجتماعية اكتسب بسببها جاها وسلطة، أو شيء من هذا القبيل، هذا حب أيضا، الإنسان يميل إلى حب المال، يميل إلى حب السلطان، يميل إلى حب الجاه، تلك شهوات الحياة الدنيا، وهذه فطرة في الإنسان ولكن إذا انحرفت عن الطريق أدَّت إلى خسارة ودمار {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرَ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالانْعَامِ وَالحرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران: 14)، هذه محاسن أيضا للدنيا وللآخرة إن وُجِّهَت في طريق الآخرة، أما إن استُغِلَّت صارت أوثانا، هذه الشهوات التي ذُكرت في هذه الآية من أوائل سورة آل عمران تصبح أوثانا تُعبَد من دون الله لأن الأهواء تتعلق بها {أَفَرَايْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}(الجاثية: 23)، يتعلق الهوى بحجر أو بشجر أو ببشر فيميل القلب و يصبح مملوكا لذلك الوثن، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً}(البقرة: 165) أي قرناء، يقرنونهم بما لله من فضل وجمال وجلال، فيحبون هذه الأشياء بما ينبغي أن يجعلوه لله، {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}(البقرة: 165)، ولكن المؤمنين أشد حبا لله، {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً} (البقرة: 165) “أشدُّ” صيغة تفضيل، يعني هم في محبتهم أكثر تعلقا على المستوى الوجداني القلبي بذات الله وصفاته من تعلق المشركين بتلك الأوثان المادية أو المعنوية،
المحبة المتبادلة بين الرب وبين عبده
إذن ليس عبثا قول الله عز وجل {قُل إن كُنتُم تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}( آل عمران: 31)، المحبة المتبادلة بين الرب وبين عبده، الفرح المتبادل بين العبد وبين ربه، عن أبي حمزة أنس بن مالك الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة))(متفق عليه)
وقوله عز وجل: {رضي الله عنهم ورضوا عنه}، والرضى شعور وإحساس نفسي يشعر فيه الإنسان بالراحة، ولا يكون الرضا إلا عن شيء جميل، لا يرضى الإنسان على القبيح، لا يرضى على الشيء المقرف، وإنما يرضى على الشيء الجميل ذي البهاء، ذي الجمال، ذي الجلال، والله كذلك سبحانه وتعالى، فيمدُّ عباده الصالحين بشيء من ذلك فيرضى الله على عبده الصالح ويرضى العبد على ربه بما مَنَّ عليه، [رضيت بالله ربّاًرضي الله عنه، أي رضيت بجمال الله، رضيت بصفات الله، رضيت بأسماء الله، رضيت بما من الله علي من خير وفضل، هذا كله يُعلِّق القلب بالله، وذكرنا في الحصة السابقة الرجل من السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله، ورجل قلبه معلَّق بالمساجد، حينما ينادي المنادي للصلاة يسرع إلى قلبه، لأنه معلق مثل الثريا في المسجد، ليس هناك ما يشغله فيرجع إلى قلبه، لأن كل مواجده سكنت في القلب، والقلب إذا تعلق بالله لا يَفصِلُه عنه شيء، حتى الشيطان حين يوسوس لك لا يستطيع صرفك عن عبادة الله حينئذ، لأن مسلكك إلى الله عز وجل كان هو مسلك المحبة، هذا المعنى من زُبدة العبادة، قد يُخطئه اثنان:
أحدهم قرأ هذا الكلام في كتب التصوف فقال: هذا من كلام الطُّرُقية لا يصلح لشيء، ومثل هذا أضاع وضيع.
والآخر أخد ذلك الأمر بما فيه من فساد وما فيه من اعوجاج مما ذكرت قبل: “إن كنت أعبدك طمعا في جنتك فاحرمني منها، وإن كنت أعبدك خوفا من نارك فأحرقني بها”، هذا خطأ، وصاحبه يسقط في كثير من البدع، والمؤمن الكيس الفطن من يأخذ الوسط، يأخذ أطايب ما عند هؤلاء، وأطايب ما عند هؤلاء بمنظار السنة النبوية.
انظر إلى الإنسان حين يضل ويظن أنه بقوته أو بكثرة طاعاته يستطيع الاستغناء عن رحمة الله، “وإن كنت أعبدك خوفا من نارك فأحرقني بها” من منا يمكن أن يصبر على نار جهنم؟ إنها دعوى باطلة، كلام فارغ -نسأل الله العافية-
عِلْمٍ بالله وعمل لله.
أما قوله عز وجل {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}(البقرة: 165) فلأنهم عرفوا الله عز وجل، لو لم يعرفوه ما أحبوه، وكيف كان حبهم أشدّ أي أكثر وأرفع وأعمق وأقوى من حب الآخرين للأنداد، كان ذلك لأنهم قارنوا بين الأمرين، لأن صيغة التفضيل تقع بين اثنين، وإنما يقع التفضيل بين اثنين أشد حبّاً لله، فالذين آمنوا عرفوا آلهة الذين كفروا، عرفوا آلهة المشركين، أحجاراً أو أشجاراً أو أموالا أو مناصب، عرفوها وزهدوا فيها، ثم عرفوا الله بعد ذلك، وعرفوا ما لهذه الأشجار والأحجار والأوثان المعنوية، عرفوا ما لها من قدر، وقَدْرُها وَضِيعٌ، وعرفوا ما لله من قدر وقدره عز وجل رفيع، فكان حبهم لله أشدّ من حب الذين كفروا لأندادهم، لماذا؟ أيضا لأن الذين كفروا إنما عَرَفُوا آلهتهم فقط، ليسوا كالمؤمنين، المؤمن يعرف الله عز وجل، وعارف بالأوثان الأخرى، فهي تنازعه، فيدعها ويتعلق بالله، أما الآخرون فلم يعرفوا الله ولكن عرفوا تلك الأنداد فأحبوها، ولو قُدِّرَ لهم أن يعرفوا الله وقُدِّرَ لهم أن يهتدوا إليه لأحبوه، ومعرفة الله ليست كـ”اسم” فقط، لا، لأن الله لا يُعرف إلا بأمرين يُعرف بالعِلم {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالقِسْطِ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(آل عمران: 18)، يُعرَف بالعلم، ثم يُعرف بالعبادة، لأن العلم يُعلمك الصفات، ويُعلِّمُك أخبار الحق عن الحق سبحانه وتعالى، ولأن العبادة تساعدك على تذوق معنى كل ما علمت، لأن الإنسان قد يَعْلَم ولا يذوق ما يَعلَم، لا يَعلَم العالِم حقيقة ما يعلم إلا حينما يذوقه، وذلك ما سماه النبي عليه الصلاة والسلام حلاوة الإيمان، فحلاوة الإيمان إنما تُدرك بالسلوك، بالأخلاق، بالعمل، بالسير إلى الله عز وجل، والمؤمن من جمع بين العِلم والعَمَل،
المؤمن الحق هو الذي استوى إيمانه، هو الذي جمع بين عِلْم وعَمَلٍ، عِلْمٍ بالله وعمل لله، هذا هو الحقّ الذي ينبغي أن يكون عليه الإنسان المؤمن، والذي يجعله فعلا يعرف مَنِ هو الله حتى يكون من الذين آمنوا، الذين هم أشد حبّاً لله، فاللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا من الذين آمنوا الذين هم أشد حبا لله، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واجعلنا من التوابين واجعلنا من المتطهرين، واغفر لنا أجمعين برحمتك يا أرحم الراحمين يا رب العالمين.
اللهم ربنا أعط أنفسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
اللهم اجعلنا لك من الشاكرين، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين، اللهم اغفر لنا أجمعين.
اللهم عافنا في ديننا وعافنا في أبداننا وعافنا في دنيانا وعافنا في أخرانا.
الدكتور فريد الأنصاري
——-
(ü) منزلة الخوف و الرجاء من حلقات منازل الإيمان التي ألقيت بمسجد الجامع الأعظم بمكناس وهي مادة مسجلة على شريط سمعي .
أعدها للنشر : عبد الحميد الرازي