من البيان القرآني
قوله تعالى : {إنما يخشى الله من عباده العلماء}
قال عبد القاهر الجرجاني رحمه الله:
قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}؛ في تقديم اسم الله عز وجل معنى، خلاف ما يكون لو أخر. وإنما يبين لك ذلك إذا اعتبرت الحكم في “ما” و”إلا”، وحصل الفرق بين أن تقول: “ما ضرب زيداً إلا عمرو، وبين قولك: ما ضرب عمرو إلا زيداً. والفرق بينهما أنك إذا قلت: ما ضرب زيداً إلا عمرو فقدمت المنصوب، كان الغرض بيان الضارب من هو، والإخبار بأنه عمرو خاصة دون غيره. وإذا قلت: ما ضرب عمرو إلا زيداً، فقدمت المرفوع كان الغرض بيان المضروب من هو، والإخبار بأنه زيد خاصة دون غيره. وإذ قد عرفت ذلك فاعتبر به الآية. وإذا اعتبرتها به علمت أن تقديم اسم الله تعالى إنما كان لأجل أن الغرض أن يبين الخاشون من هم، ويخبر بأنهم العلماء خاصة دون غيرهم. ولو أخر ذكر اسم الله، وقدم العلماء فقيل: إنما يخشى العلماء الله، لصار المعنى على ضد ما هو عليه الآن، ولصار الغرض بيان المخشي من هو، والإخبار بأنه الله تعالى دون غيره. ولم يجب حينئذ أن تكون الخشية من الله تعالى مقصورة على العلماء، وأن يكونوا مخصوصين بها كما هو الغرض في الآية. بل كان يكون المعنى أن غير العلماء يخشون الله تعالى أيضاً، إلا أنهم مع خشيتهم الله تعالى يخشون معه غيره، والعلماء لا يخشون غير الله تعالى.
وهذا المعنى، وإن كان قد جاء في التنزيل في غير هذه الآية كقوله تعالى: {ولا يخشون أحداً الا الله} فليس هو الغرض في الآية، ولا اللفظ بمحتمل له البتة. ومن أجاز حملها عليه كان قد أبطل فائدة التقديم وسَوّى بين قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} وبين أن يقال: إنما يخشى العلماء الله. وإذا سوى بينهما لزمه أن يسوي بين قولنا: ما ضرب زيداً إلا عمرو، وبين: ما ضرب عمرو إلا زيداً. وذلك ما لا شبهة في امتناعه.
فهذه هي المسألة. وإذ قد عرفتها فالأمر فيها بَيِّن أن الكلام ب “ما” و “إلا” قد يكون في معنى الكلام ب “إنما”. ألا ترى إلى وضوح الصورة في قولك: ما ضرب زيداً إلا عمرو، وما ضرب عمرو إلا زيداً، أنه في الأول لبيان من الضارب. وفي الثاني لبيان من المضروب، وإن كان تكلفاً أن تحمله على نفي الشركة فتريد بما ضرب زيداً إلا عمرو أنه لم يضربه اثنان، وبما ضرب عمرو إلا زيداً أنه لم يضرب اثنين.
> دلائل الإعجاز عبد القاهر الجرجاني
<< من البلاغة النبوية
في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: “سبق المفردون”
عن أبي الدرداء، قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فقال: ((سبق المفردون)). قالوا يا رسول الله، وما المفردون؟ قال: ((المفردون بذكر الله وضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون يوم القيامة خفافاً))(رواه الطبراني عن شيخ عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم وهو ضعيف). وعن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبق المفردون. قالوا: يا رسول الله، وما المفردون؟ قال: الذين يهترون في ذكر الله عز وجل. (قال ابن الأثير يقال هتر بالشيء واستهتر به إذا ولع به ولم يتحدث بغيره) (رواه أحمد وفيه أبو يعقوب صاحب أبي هريرة ولم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح).
> مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ الهيثمي
جاء في الخبر: سيروا سبق المفردون. بالفتح، والمفردون أيضاً بالكسر، فهم مفردون للَّه تعالى بما أفردهم اللَّه تعالى. قيل: ومن المفردون؟ قال: المستهترون بذكر اللَّه. وضع الذكر أوزارهم فوردوا القيامة خفافاً، فلما أفردهم اللَّه تعالى ممن سواهم له أفردوه عما سواه به فذكرهم فاستولى عليهم ذكره.
> قوت القلوب لأبي طالب مكي
من السيرة النبوية خبر أكثم بن صيفي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن الجوزي رحمه الله:
ومن الحوادث العجيبة أن أكثم بن صيفي الحكيم لما سمع بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يأتيه، فأبى قومه أن يَدَعوه، وقالوا: أنت كبيرنا لا نتركك تذهب إِليه. قال: فليأت مَنْ يبلغه عني ويبلغني عنه، فانتدب رجلان فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: نحن رسل أكثم بن صيفي، وهو يسألك مَنْ أنت، وما أنت، وبماذا أجبت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أنا محمد بن عبد الله، وأنا عبد الله ورسوله، ثم تلا عليهم هذه الآية: {إن الله يامر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}، قالا: وفد علينا هذا القول. فردده عليهم حتى حفظوه. قال: فلما أتيا أكثم قالا: قد سألناه عن نسبه، فوجدناه واسط النسب في مضر، وقد رمى إلينا كلمات حفظناهن. فلما سمعهن أكثم قال: “يا قوم أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها، فكونوا في هذا الأمر رؤساء، ولا تكونوا أذناباً، وكونوا فيه أُولاً ولا تكونوا فيه أُخراً. ولم يلبث أن حضرته الوفاة، فأوصى، فقال: أوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم، فإنها لا يبلى عليها أصل، ولا يهيض عليها فرع، وإياكم ونكاح الحمقى، واعلموا أن سوء جهل الغني يورث سرحاً، وأن سوء جهل الفقير يضع الشرف، وأن العدم عدم العقل لا عدم المال، واعلموا أنه لن يهلك امرؤ عرف قدره، واعلموا أن مقتل الرجل بين لحييه، وأن قول الحق لم يترك لي صديقاً”.
وذكر أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري: أن أكثم بن صيفي سمع بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه مع ابنه حُبيش: “باسمك اللهم، من العبد إلى العبد، أما بعد: فبلغنا ما بلغك الله، فقد بلغنا عنك خير، فإن كنت أريت فأرنا، وإن كنت علمت فعلمنا، وأشركنا في خيرك، والسلام”.
فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم: “من محمد رسول الله إلى أكثم بن صيفي، أحمد الله إليك، إن الله أمرني أن أقول لا إله إلا الله وليقر بها الناس، والخلق خلق الله، والأمر كله لله، وهو خلقهم وأماتهم، وهو ينشرهم وإليه المصير. بآدابه أدب المرسلين، ولتسألن عن النبأ العظيم، ولتعلمن نبأه بعد حين”.
فقال لابنه: ما رأيت منه، قال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها. فجمع أكثم بني تميم، وقال: “لا تحقرن سفيهاً، فإن مَنْ يسمع يخل، وإن مَنْ يخل ينظر، وإن السفيه واهي الرأي، وإن كان قوي البدن، ولا خير فيمن عجز رأيه ونقص عقله”.
فلما اجتمعوا دعاهم إلى إتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام مالك بن عروة اليربوعي مع نفر من بني يربوع فقال: “خرف شيخكم، إنه ليدعوكم إلى الغباء، ويعرضكم للبلاء، وإن تجيبوه تفرق جماعتكم، وتظهر أضغاثكم، ويذل عزكم، مهلا مهلًا”.
فقال أكثم بن صيفي: “ويل للشجي من الخلي، يا لهف نفسي على أمر لم أدركه ولم يَفُتْني ما آسَى عليك، بل على العامة، يا مالك إن الحق إذا قام دفع باطلا وصرع صرعى قياماً”.
فتبعه مائة من عمرو وحنظلة، وخرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان في بعض الطريق، عمد حبيش إلى رواحلهم فنحرها وشق ما كان معهم من مزادة، وهرب، فأجهد أكثم العطش فمات، وأوصى مَنْ معه باتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأشهدهم أنه أسلم. فأنزل الله تعالى فيه: {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى اللّه ورسوله ثم يدركه الموت، فقد وقع أجره على اللّه}.
فهاتان الروايتان تدلان على أن أكثم بن صيفي
أقوال في ذكر الله تعالى وحمده
أُتي عمر رضي الله عنه برجل وجب عليه الحد، فأمر أن يقام عليه، فجعل يسبح، فقال عمر: خفف عنه الضرب، فإن المجلود لا يسبح إلا وفي قلبه توبة.
وقال الفضيل: بلغني أن أكرم الخلائق على الله يوم القيامة، وأحبهم إليه، وأقربهم منه مجلساً الحمادون على كل حال.
وقال سعيد بن جبير: إن أول من يدعى إلى الجنة الذين يحمدون الله في السراء والضراء.
وقال الحسن البصري: الذكر ذكران، ذكر الله بين نفسك وبين الله، ما أعظمه أعظم أجره! وأفضل من ذلك مَن ذكر الله عند ما حرم الله تعالى.
وقال سفيان بن عيينة: إذا اجتمع قوم يذكرون الله اعتزل الشيطان والدنيا، فيقول الشيطان للدنيا: ألا ترين ما يصنعون؟ فتقول الدنيا: دعهم، فإذا تفرقوا أخذت بأعناقهم إليك.
ودخل أبو هريرة السوق فقال: أراكم ها هنا وميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم في المسجد. فذهبوا إلى المسجد وتركوا السوق؛ فقالوا يا أبا هريرة ما رأينا ميراثاً يقسم؛ فقال: ماذا رأيتم؟ قالوا: رأينا قوماً يذكرون الله ويقرؤون القرآن؛ قال: فذلك ميراث محمد.
وقال عتبة بن الوليد: كانت امرأة من التابعين تقول: سبحانك ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله! فزدت من عندي: وما أوحش الطريق على من لم تكن أنيسه!
> ربيع الأبرار للزمخشري
مــزاح الـنـبـي صلى الله عليه وسلم
روى بكر بن عبد الله المزني أنه صلى الله عليه وسلم قال: إِنّي لأَمزَحُ وَلاَ أَقُولُ إِلاَّ الحَقّ. وفي روايةٍ إِلاَّ حَقًّا. وعن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله إنك تداعبنا قال: إِنّي لاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا. وقد سئل سفيان: المزاحُ هُجنَة؟ فقال: بل سُنة، لقوله عليه السلام إني لأمزح ولا أقول إلا الحق. وقال أنس بن مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفكه الناس.
وقال صلى الله عليه وسلم : رَوّحِوُا القُلُوبَ ساعَةً بَعدَ ساعَةٍ.
ومن مزاحه صلى الله عليه وسلم ما رواه أنس قال: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: يا أبا عمير ما فعل النغير؟ كان له نغير يلعب به فمات.
وما رواه الحسن قال: أتت عجوز من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ادع لي بالمغفرة فقال لها: أَمَا عَلِمتِ أَنَّ الجَنَّةَ لاَ يَدخلُهُاَ العَجَاَئِزُ. وفي روايةٍ العجوزَ، وفي رواية لاَ تَدخُلُ الجَنَّةَ عَجُوزٌ. فبكت. وفي رواية فصرخت. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لها: لَستِ يَومَئذٍ يبعَجُوزٍ أَمَا قَرَأتِ قَولَهُ تعالى: {إِنَّا أَنشَأنَاهُنَّ إِنشَاءَ فَجَعَلنَاهُنَّ أَبكاَراً عُرُباً أَتَراباً}.
وروى زيد بن أسلم أن امرأة يقال لها أم أيمن جاءت النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة لزوجها فقال لها: مَن زَوجُكِ؟ فقالت فلان فقال: الذِي في عَينِهِ بَيَاضٌ؟ فقالت أَي رسولَ اُلله ما بعينه بياض قال: بلى إِنَّ بِعَينِه بَيَاضاً فقالت: لا واللهِ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وَمَا مِن أَحَدٍ إِلاَّ بِعَينِهِ بَياَضٌ. وفي رواية؛ فانصرفت عَجلى إِلى زوجها وجعلت تتأَمّل عينيه فقال لها: ما شأنكِ؟ فقالت: أَخبرني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَن في عينيك بياضاً فقال لها: أَما ترين بياضَ عيني أَكثَر من سوادها؟.
وجاءته امرأة أخرى فقالت: يا رسول الله احملني على بعير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : احمِلُوهَا عَلَى ابنِ البَعِير فقالت: ما أَصنع به؟ ما يحملني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهَلِ مِن بِعَيرٍ إِلاَّ اُبنُ بَعِيرٍ؟ فكان يمزح معها.
وعن أنس أن رجلا استحمل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إِنّي حَامِلُكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ فقال: ما أَصنع بولد الناقةِ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهَل تَلِدُ الأبِلَ إِلاَّ النُّوقُ؟
وعن جابر قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم والحسن والحسين على ظهره وهو يمشي بهما على أربع ويقول: نِعمَ الجمَلُ جَملُكُمَا وَنِعمَ العِدلاَنِ أَنتُمَا.
وعن أنس أن رجلا من أهل البادية اسمه زاهر بن حرام وكان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم من البادية فيجهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج فقال النبي صلى الله عليه وسلم إِن زَاهَراً بَاديَتُنا وَنَحنُ حَاضِرُوه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه وكان دميماً فأَتى النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصر قال: أَرسِلني، من هذا؟ فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم فجعل لا يألو ما أَلزق ظهره رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عرفه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: مَن يَشتَري العَبدَ؟ فقال: يا رسول الله إِذن والله تجدني كاسداً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لَكِن عندَ الله لَستَ بَكاَسِدٍ.
وعن يحيى ابن أبي كثير قال: كان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحاكا، فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كأنهم يعيبون ذلك، فقال النبي عليه السلام: أَنَّى تَعجَبُونَ إِنَّهُ لَيَدخُلُ الجَنَّةَ وَهُوَ يَضحكُ.
> المراح في المزاح لأبي البركات الغزي
أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روينا أنه مات قبل ذلك.
قال مؤلف الكتاب رحمه الله: كان أكثم بن صيفي من كبار الحكماء، وعاش مائتي سنة، وله كلام مستحسن.
>المنتظم لابن الجوزي
إعداد : الدكتور عبد الرحيم الرحموني