عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : قال رسول لله صلى الله عليه وسلم : ((إن الحلال بيِّــن وإن الحرام بيِّـــن وبينهما أمور مشتبِهات لا يعلمهنّ كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِـرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحِمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حِمى ألا وإن حِمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب))(1).
ترجمة موجزة للنعمان بن بشير:
هو النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة بن جلاس بن زيد الأنصاري الخزرجي ويكنى عبد الله وهو أول مولود ولد بالمدينة بعد الهجرة للأنصار في جمادى الأول سنة ثنتين من الهجرة فأتت به أمه تحمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحنكه وبشرها بأنه يعيش حميدا ويقتل شهيدا ويدخل الجنة. وصدق الحبيب صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به فقُتِلَ في بعضِ قُرَى حِمْصَ سِنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ للهجرة.
أهميّـة هذا الحديث:
قال أبو داوود السجستاني رحمه الله تعالى هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة.
وقال رحمه الله : الإسلام يدور على أربعة أحاديث منها هذا الحديث.
وقال بعض العلماء:
عمدة الدين عندنا كلمات مسندات
من قــــول خــــير البريـــة
اترك المشبهـــات وازهـــــد ودع
ما ليس يعنيك واعملنّ بنيّــة
تقسيمات هذا الحديث:
1- يقسم أفعال المكلفين من حيث الحكم الشرعي إلى ثلاثة أقسام: – الحلال – والحرام – والمشتبه
2- ويقسمها من حيث الوضوح والبيان إلى قسمين: – البيِّــن – المشتبه
3- ويقسمها من حيث علم الناس بها إلى قسمين:
* قسم في متناول عموم المسلمين المفروض أن يعلمه الجميع إلا من أبى وإلا فإن الشرع قد نصب عليه من الأدلة ما يكفي، ويعلمه عموم العلماء والفقهاء ويعملون به فيكون منقولا عنهم قولا وعملا فيعمل به عموم المسلمين دون نكير.
* قسم لا يعلمه إلا القليل وهم العلماء. وهو المشتبه أو المتشابه(2) لأن وجوهه المتعددة بعضها يشبه الحلال وبعضها يشبه الحرام واقتصار النظر فيه على زاوية يوقع في الخطأ وهو ما لا يستطيع تفاديه إلا الراسخون في العلم.
4- ومن حيث إقدام المسلم عليها يقسمها إلى ثلاثة أقسام :
* الحلال الجائز الذي ترك فيه الخيار للمسلم يفعله أو يتركه.
* الحرام الممنوع الذي اقتضى خطاب الشارع تركه بطلب جازم.
* المشتبه الذي تعلق به خطاب تعلقا خاصا وهو الاتقاء.
ملاحظتان جديرتان بالتأمل :
أ- لم يبيّــن الحديث الشريف ما ينبغي للمسلم تجاه الحلال والحرام كما لم يبيِّــن الحكمة من ذلك، لماذا؟
* ربما لأن العلم بالحكم الشرعي أصعب من العلم بما ينبغي تجاهه.
الحلال ومعرفته من نصوصه الشرعية وبقية الأدلّة المنصوبة عليه ودلالة هذه النصوص عليه أصعب من العلم بإباحته.
كما أن العلم بالحرام من نصوصه الشرعية وبقية الأدلة المنصوبة عليه أصعب من العلم بوجوب تركه واجتنابه.
ولذا لم يرد ذكر ما ينبغي فعله تجاه الحلال والحرام.
* أو ربما لأن العلم بالحلال والحرام يقتضي باللزوم العقلي الاستعداد للعمل بمقتضاه لأن ذلك لا يكون إلا بدافع الاعتقاد بأن هذه الأحكام تنطوي على حِكم لأن الحاكم بها هو أحكم الحاكمين.
* أو لأن المسلم يعتقد -أو ينبغي أن يعتقد- أن ما نهانا عنه الرحيم سبحانه هو شر مطلق وأن ما أباحه لنا، بالاقتضاء أو بالتخيير، هو خير مطلق وهذا مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية.
الحلال في هذا الحديث يقصد به كل ما يجوز للمسلم أن يتعاطاه من حاجاته الضرورية والحاجية والتحسينية ، والمسلم فيه مخيّــر بين الفعل، دون إسراف ولا مخيلة، والترك.
الحرام يقصد به هنا ما لا يجوز للمسلم تعاطيه في أي مجال من مجالات الحياة ويشمل فعل المحرم وترك الواجب،
ولأنه (أي الحرام) لا يمثل منه (أي من الحلال) إلا ما تمثله الشجرة الممنوعة من الجنة المباحة(3)، ولأن الاستجابة لمقتضى الشرع فيه لا تفوِّت على المسلم ضرورة ولا حاجة، لأن الكريم جعل لعباده في الحلال الذي أباحه لهم كفاية عن الحرام الذي منعهم منه… قال تعالى : {وقلنا يا آدم إن هذا عدوّ لك ولزوجك فلا يخرجنّـكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى}(طــــه : 114- 116). فما الداعي إذاً إلى اقتحام حمى الحرام؟.
تـنـبـيـه :
إن كثيرا من الكافرين والغافلين يتعاطون الحلال وقد يكتفون به لا يجاوزونه إلى غيره وقد يجتنبون الحرام، فما الفرق بينهم وبين المتقين؟
وأحسب أن الاحتساب عامل حاسم في المسالة وهو الفارق والفاصل بين المتقين من جهة وبين الغافلين من المسلمين والكافرين من جهة أخرى.
والاحتساب يعني أن المسلم يأتي ما يأتي مع اعتقاده جوازه وأن الله تعالى أباحه له . فهو يأتيه طاعة لله وبهذا المعنى يكون التمييز بين المؤمن الفطن وبين الغافل عن ذكر الله.
والاحتساب شرط في حصول الأجر حتى في الفرائض ألا ترى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه))(4).
وهو شرط في حصول الثواب في المباح في حديث أهل الدثور قال صلى الله عليه وسلم: ((…وفي بُـضع أحدكم صدقة)) فقال الصحابة : يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال صلى الله عليه وسلم : ((أرأيت إن وضعها في الحرام أكان عليه وِزر؟ فكذلك إن وضعها في الحلال)) وفي رواية : ((…أتحتسبون الشر ولا تحتسبون الخير؟)).
> ب- تركيز الحديث على المشتبهات:
إذا كان الحديث الشريف قد اكتفى بالتنبيه على وجود الحلال والحرام وبشدة وضوحهما ولم يزد على ذلك، فإنه أولى المشتبهات عناية خاصة واحتلت فيه مساحة واسعة، وهذا يستدعي وقفة تأمّـل.
> أول صفة للمشتبهات أنها غير معلومة لكل الناس وهذا يجعل المؤمن يشعر بشدة حاجته واستمرارها إلى طلب الحكم الشرعي من أهله وهم العلماء الراسخون وأنهم قِـلّـة. وليعلم المؤمن أن علاقته بالله تعالى تبدأ بالعلم بحكمه سبحانه على الأشياء وعلى الأفعال إباحة ومنعا وتحسينا وتقبيحا وترغيبا وترهيبا… ليكون علمه بهذه الأشياء والأفعال مستمدا من العلم الإلهي… وليكون موقفه منها مطابقا ومنسجما مع حقيقتها.
> الصفة الثانية لهذه المشتبهات أنها لا تقلُّ خطورة في صياغة شخصية المسلم وأن التساهل فيها أو إغفالها يؤدي إلى نتائج خطيرة على سلوك المسلم وعلى عقيدته.
> الصفة الثالثة للمشتبهات أنها بين الحلال البيّـن والحرام البيّـن. وأنها تمثل مساحة مستقلة تمتدّ حدودها من الحلال إلى الحرام بل هي الحدود بينهما..
إن الله تعالى يقول: {تلك حدود الله فلا تقربوها}(البقرة : 187) ويقول عز من قائل: {تلك حدود الله فلا تعتدوها}(البقرة : 229) ولا شك أن الاعتداء لا يتمّ إلا بعد الاقتراب والاقتحام، فهلاّ كان الاكتفاء بالنهي عن الاقتراب؟
والجواب أن كتاب الله المحكم لا يذكر الشيء مع إمكانية الاستغناء عن ذكره. والنهي عن كل من الاقتراب والاعتداء ضروري لأن الحدود مختلفة، هناك حدود الحلال وحدود الحرام.
فالحلال هو مجال فعل المسلم وهو جائز والمطلوب منه عدم اعتدائه وهذا ما يدل عليه السياق الذي يأتي فيه قول الله تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها}.
والحرام هو المجال الذي لا يجوز للمسلم فعله أو حتى الاقتراب منه والسياق الذي ورد فيه قوله تعالى: {تلك حدود الله فلا تقربوها} دائما يشير إلى الممنوع شرعا، من ذلك:
قوله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن}(الانعام : 152).
{ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن}(الانعام : 151).
{ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا}(الاسراء : 32).
{ولا تقربا هذه الشجرة}(البقرة : 35).
وغير ذلك من النصوص التي تمنع من مجرد الاقتراب من المحظور.
وهذا الحديث الشريف ينسجم انسجاما تامّـا مع التوجيهات القرآنية، حيث يقسم مجال الفعل الإنساني إلى ثلاثة مناطق : منطقة الحلال ومنطقة الحرام ومنطقة بينهما هي منطقة المشتبهات وأفراد هذه المنطقة يشبهون أفراد الحلال من جهة ويشبهون أفراد الحرام من جهة أخرى، كما أنهم يقتربون في الحكم من أفراد الحلال أحيانا ويقتربون من أفراد الحرام أحيانا أخرى ومن هنا تأتي صعوبة العلم بهم وقلة العالمين بهم ((لا يعلمهنّ كثير من الناس)).
ومن الأمثلة على المتشابه ما وقع لراوي الحديث وأن أباه البشير قد نحله نِحلة وجاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يخبره بذلك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أَكُـلُّ ولدِك نحلته مثل النعمان))؟ قال :لا، قال : ((فأشهد على هذا غيري)).
واشتباه الفعل الذي صدر من البشير يتجلى في:
- أنه جائز بالنظر إلى أن صاحب المال قد تصرف في ماله بالهبة وهو في كامل قواه العقلية والبدنية ومن دون إكراه.
- أنه غير جائز بالنظر إلى أن صاحبه فضّـل بعض ولده على الآخرين دون موجب شرعي.
فدلّ على جوازه في الوجه الأول أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم ينهه صراحة ولو كان حراما صِرفا لنهاه صلى الله عليه وسلم لأنه لا يمكن أن يسكت على منكر.
ودلّ على عدم جوازه في الوجه الثاني عدم شهادته عليه وقوله صلى الله عليه وسلم : ((أشهد على هذا غيري)).
والفعل الإنساني ينبغي أن ينحصر في دائرة الحلال ولا يتجاوزها إلى المشتبه لأن ذلك اعتداء لحدود الحلال وفي نفس الوقت هو اقتراب من حدود الحرام وبالتالي فهو مخالفة لنصين من كتاب الله تعالى القائل: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} والقائل: {تلك حدود الله فلا تقربوها}.
ومن هنا أيضا تظهر الدقة المتناهية في التعبير النبوي ب”البينيّـة” في قوله عليه السلام : ((… وبينهما أمور مشتبهات…)).
د. لخضر بوعلي
——-
1- رواه البخاري
2- المتشابه أسهل في التمييز لأنه يشبه من وجه ويخالف من وجوه أخرى بينما المشتبه يكون أصعب في التمييز لأنه يشبه من وجوه متعددة.
3- مستلهم من قوله تعالى : {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة…}(البقرة : 34).
4- رواة البخاري ومسلم . -يتبع-