مقدمة
خلق الله كل مواليد العالم أمِّيين جهلاء لا يعلمون شيئا ولا يعرفون ما يدور حولهم، ولكن الله الرؤوف الرحيم زوَّدهم بالوسائل التي تُكتَسب بها المعرفة ويُنال بها العلم ويحصُل بها الإدراك، وشرح صدورهم ونوّر عقولهم ووسع مداركهم لتكون أوعية لذلك، يقول الله الكريم مبينا الهدف من العلم : {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا، وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون}(النحل : 78)، ولو شاء بقدرته لجعلنا صما بكما عميا لا نعقل ولا نفهم شيئا .
أي علم يريده الإسلام؟
لقد عاش الجيل الأول من أمتنا عيشة هنيئة عاشوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومع صحابته فنهلوا العلم من منابعه الصافية وتلقوا التربية والتزكية وورثوا العمل بذلك، وأورثهم العلم خشية الله في قلوبهم، فنوَّر الله بالعلم قلوبهم وزكى به أنفسهم وشرح به صدورهم وأنار لهم ظلمات الحياة فعاشوا سعداء، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه : ((ليس العلم عن كثرة الحديث، ولكن العلم عن كثرة الخشية)) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 6/ 545.
وفي هذا السياق قال مالك رحمه الله : ((إن العلم ليس بكثرة الرواية؛ وإنما العلم نور يجعله الله في القلب))(1)، فخلف من بعدهم خلف نُزع منهم حب العلم بالله وزالت من قلوبهم خشية العلماء، وطلبوا العلوم الدنيوية الصادة عن الله المبعدة عن طريقه التي تصرف القلوب إلى غير خالقها، وتجعل القلوب منكوسة، والعقول مطموسة تفكر في غير بارئها، وتهتم بغير مصيرها حتى أصبحنا نرى أفواجا من المتخرجين من الجامعات والمعاهد بشواهد عليا، وهم جهلاء بدينهم، ولا يعرفون شيئا عن مصيرهم، ورغم ما تبذل من جهود، وما يصرف من نقود، فإن نسبه الأمية ما تزال مرتفعة في بلادنا بما فيها الدينية والأبجدية، قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ((من أشراط الساعة أن يُرفع العلم ويظهر الجهل ويُشرب الخمر ويظهر الزنى))(2)، والمراد بالعلم الذي يرفع هو العلم بالله، مقابل الجهل به وبدينه، وإلا فوسائل العلم اليوم ومؤسساته وشعبه وتخصصاته أكثر من أي وقت مضى، فالبشرية اليوم تعلَم كثيرا ولكن من أمور الدنيا، يقول الله عز وجل مؤكدا هذه الحقيقة: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون}(الروم : 7)، ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (( إن الله يبغض كل جعظري جوَّاظ(3) صخَّاب في الأسواق، جيفة بالليل حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة))(4).
لقد كثرت في هذا الزمان العلوم الدنيوية الصادة عن الله المطغية الملهية، حتى سببت الترف الفكري، والإفراط الثقافي، فمنها ما أسدى للإنسانية خدمات جليلة، ومنها ما سبب لها الشقاء والتعاسة، ولقد عاب الله عز وجل على الذين لهم نصيب من علوم الدنيا فاغتروا به وادَّعوا أن ما هم فيه من خير ونعيم نالوه بعلمهم وخبرتهم وقوَّتهم فقال الله تعالى: {فإذا مس الانسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم عندي، بل هي فتنة ولكن أكثر الناس لا يعلمون}(الزمر : 46).
ولقد أصبحنا نرى اليوم الأفواج تتخرج من الجامعات ومراكز العلم وهي لا تنتفع بعلمها شيئا، لا في الأمور الدينية ولا في الأمور الدنيوية، ومثل هذا العلم كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منه، فكان يقول : ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع))(5)، ونرى أغلب المتخرجين من مؤسسات التعليم لا علم لهم بالجانب الإيماني الأخلاقي السلوكي، حيث تجد مِن طلبة العلم ومدرسيه مَن يدخنون السجائر والمخدرات ويشرب الخمور، ويفعل الفجور ويتلفظ بالكلام الفاحش الساقط، وترى طالبات العلم والحاصلات على الشواهد العليا عاريات فاتنات مفتونات لا حياء ولا حشمة فيهن، وكثير منهن من ينحدرن إلى الدعارة وبيع أعراضهن بأبخس الأثمان، وتعريض حياتهن ومستقبلهن للضياع والخطر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تعلم علما مما يُبْتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرْف(6) الجنة يوم القيامة))(7)، وقال عليه الصلاة والسلام في رواية أخرى : ((من تعلم علما لغير الله، أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار))(8)، وقال الحسن البصري رحمه الله:”لقد طلب أقوام العلم ما أرادوا به الله ولا ما عنده”، قال هذا قديما، فماذا يقول لو اطلع على طلاب العلم اليوم وعرف قصدهم وأخلاقهم؟
إن شبابنا اليوم تتسع عقولهم لحفظ أسماء الفنانين والفنانات والمغنين وأغنياتهم وأسماء اللاعبين وكم سجلوا من انتصارات وأهداف، وتضيق عقولهم لحفظ سور القرآن وأحاديث النبي العدنان، ونصوص الدين وفرائضه وسننه.
إن العلم الذي تفتقده البشرية في عصر الذرة والمعلوميات هو العلم بالله عز وجل -ولا علم أشرف منه على الإطلاق- علم يكون باسم الرب سبحانه {اقرأ باسم ربك} علم يربط بالخالق ويبعث على المعرفة به والخشية منه وحُسْن التأدب معه، العلم الذي يذَكِّر بالآخرة – المصير الحقيقي للإنسان- ويوضح طريقها ويحفز على العمل لها، علم يطهِّر القلب وينور البصيرة ويقوِّم السلوك، ويزكي الفؤاد ويهذب الوجدان وينقذ من الجهل، ويُخرج من الظلمات إلى النور ويهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، ويكسب صاحبه خشية العلماء، ويرفعه في درجات القرب من مولاه حتى يدنيه منه، ويسبب له الاستقامة والتقوى، ويمنعه من إتيان الرذائل والنقائص، ويقوده إلى العمل الصالح، ويبعثه على الخوف من مولاه، علم ٌبكتاب الله وبسنة رسوله وباليوم الآخر وبما فرضه الله، وهو العلم المفروض طلبه على كل مسلم بنص الحديث الشريف، فلا يجوز الاستغناء عنه بحال، ومتى استغنت عنه البشرية ذلت وضلت وزلت، علم الأذواق وليس علم الشهادات والأوراق- وإن كان لابد منه في وقتنا هذا-، علم كعلم العقلاء والعلماء من قوم قارون الذين قالوا له وللمعجبين بعلوم الدنيا وزخارفها، قال الله عز وجل حاكيا عنهم: {وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا}(القصص : 80)، العلم الذي أراد الله طلبه وسلوك طريقه، حيث يصل الإنسان به إلى السعادة والهناء، وبدونه يرتع في الضنك والشقاء، قال الله سبحانه: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهمُ إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}(التوبة : 122)، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (( العلم علمان: علم في القلب فذاك العلم النافع، وعلم على اللسان فذاك حجة الله على ابن آدم))(9)، وقال أحد العلماء المربين: “العلوم التي يتعين على الأمة أن تطلبها وتبذلها لأجيالها وتنشرها في الأمم هي تلك التي تحركها روح العلم بالله وبسنة رسوله، فالخير كله في الفقه في الدين وما يأتي بعد ذلك هو وسيلة لخدمة مقاصد الدين”، كما أنه لا غنى للإنسانية بصفة عامة والمسلمين بصفة خاصة عن العلوم الكونية المتعلقة بالعقل وهي العلوم الإنسانية والتكنولوجية، فهي علوم مطلوبة مرغوبة أودعها الله في خبايا كونه، وخلق العقل وسخره لاستخراج هذا السر، ولقد كان للمسلمين الأوائل حظ وافر منها، كابن سينا وابن الهيثم والرازي وغيرهم، وهي علوم ضرورية لعمارة الأرض ولخدمة الإنسانية وإسعادها في الحياة، وتعريفها بالله وسننه في الكون حيث أن العقل الإنساني كلما ازداد علما إلا وازداد يقينه بوحدانية الله وقدرته وربو بيته، وازداد صاحبه خوفا من الله وتقربا منه، قال الله سبحانه :{إنما يخشى الله من عباده العلماء}(فاطر : 28).
لقد عُدمت الأهداف الصالحة من التعليم في كثير من بلادالمسلمين، وفسدت مناهجه، وأصبح يفسد أكثر مما يصلح منذ أن رسم الاستعمار خططه ووضع برامجه، ولا يزال إلى اليوم امتدادا له، يخدم أهدافه ومصالحه بالدرجة الأولى، وأكثر المتخرجين منه مضطرين دينيا وعقليا وسلوكيا، مرتبطين بالغرب أكثر من ارتباطهم بالشرق، يكرهون لغتهم ويجهلون دينهم ويعادونه ويتنكرون لأصولهم .
إن التعليم في بلادنا فسد وكسد، وهذا بشهادة الجميع، ولا أدل على ذلك من أنه في كل مرة تكلف له لجنة وترصد له ميزانية لإصلاحه، والإصلاح لا يقابله إلا الفساد والإفساد، ولن يكون للتعليم إصلاح، وللمتخرجين منه فلاح ونجاح إلا إذا كان منطلقا من أرضية إسلامية نابعا من دين الأمة وأخلاقها وقيمها ويخدم أهدافها ويحقق ما تسعى إليه من آمال، واستُخدمت في ذلك الطرق التربوية والوسائل التعليمية الإسلامية الأصيلة.
فوزارة التربية والتعليم ببلادنا لم تعط لحد الآن اهتماما للقيم الإسلامية والأخلاق الإيمانية في إطار مشروع تربوي ناجح تتبلور من خلاله مواصفات تربية إسلامية حقيقية شاملة تتربى عليها الناشئة الوطنية منذ نعومة أظافرها، لتتخرج أجيال صالحة مصلحة تجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا، تعرف ربها حق المعرفة وتعبده حق العبادة، تعمر الأرض وفق شريعته وتقوم بمهمة الخلافة عن الله أحسن قيام، وتصلح ما أفسده المفسدون عبر أزمنة الانحطاط والانهزام والتبعية وتسدي للإنسانية خدمات جليلة.
إننا في أشد الحاجة اليوم -أكثر من أي وقت مضى- إلى علم يعرِّفنا بخالقنا ويعرفنا بالحلال والحرام ويبصرنا بطريق الحق، ويحررنا من قيود الجهل والتخلف والأمية والتبعية والتقليد والانحطاط، ولا يجعلنا خاضعين إلا لله عز وجل، يشخص أمراضنا ويدلنا على الدواء، علم يحبه الله ويرضاه، وتربية تقوِّم سلوكنا، وتنقي قلوبنا، وتزكي نفوسنا وترفع إلى الله همتنا، وتنهض بأمتنا، وتحقق لها المجدوالسؤدد.
اللهم إنا نسألك علما نافعا، وعملا رافعا، وقلبا خاشعا، ونعوذ بك من علم لا ينفع ومن شر ما يبعد عنك آمين.
ذ. أحمد المتوكل
——–
1- ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 6/ 545 تفسير قوله تعالى : {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}(فاطر: 28).
2- رواه البخاري عن أنس بن مالك.
3- الجعظري: قاسي القلب، الجواظ : الأكول.
4- رواه ابن حبان والأصبهاني وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 195.
5- رواه مسلم عن زيد بن الأرقم.
6- عرْف الجنة : ريحها.
7- رواه أبو داود وابن ماجة عن أبي هريرة المنتقى للقرضاوي حديث رقم 71.
8- رواه الترمذي.
9- رواه أبو بكر الخطيب في تاريخه بإسناد حسن وهو مرسل عن جابر، ورواه أبو نعيم عن أنس مرفوعا المنتقى للقرضاوي حديث : 55