من حكمة الله جل وعلا في إنزاله القرآن الكريم على خاتم الأنبياء والمرسلين أن يخرج الناس من التبعية للمخلوقين إلى طاعة رب المخلوقين، ومن عبودية أصحاب الأهواء والشهوات المتعددة إلى عبادة الله تعالى وحده.
ولقد عملت الأمة بمقتضى الوحي ما شاء الله لها أن تعمل فنالت من العزة والكرامة بقدر ما عملت بالرسالة وبقدر ما أدت من الأمانة، وبسط الله لها في الجسم والعلم بقدر ما جاهدت في دفع الشر وأهل الفساد واجتهدت في جلب الخير والصلاح للعباد، وفتح الله تعالى لها الشعوب والأمم، بقدر ما أخلصت لله جل وعلا، وبقدر ما أصابت في اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن الأمة لم تثبت في حركتها على هذا النهج فأصابها ما أصابها من الانحراف والانجراف، وقد بدأ خط الاعوجاج عن النهج الذي أمرت بالاستقامة عليه يوم غفلت عن اتباع الهدى والمنهاج: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير}، “واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم”، ويوم بدأ انحرافها بدأ انجرافها، ويوم بدأ انتكاسها عن صراط ربها المستقيم بدأ ارتكاسها في الضلال العقيم: {والله أركسهم بما كسبوا}.
فنزلت بالأمة صواعق ونوازل من داخلها ومن فعل أبنائها، ومن خارجها ومكر أعدائها لما تمكنوا من أبنائها. فتخلت الأمة عن سنن الهداية واتبعت مسالك الغواية، فتركت التمسك بالوحدة والائتلاف وآثرت التشرذم والتمزق والاختلاف، وهجرت الاعتصام بحبل الله جل وعلا، وولت قبلتها لكل من استكبر واستعلى، واستنكفت عن أحكام ربها العادلة إلى قوانين غيرها من الأمم الباغية، واحتقرت ما جاءها من ربها من خير صالح مصلح وركنت إلى ما عند أعدائها من فاسد مفسد، وقبلت -طوعا وكرها- التخلي عن كل مقومات العزة التي أعزها الله بها إن هي تمسكت بأسبابها بقوة : {يا يحيى خذ الكتاب بقوة}.
فمنذ قرون تنكبت طريق كتاب ربها للأخذ بأفكار الأمم الأخرى، ونأت تدريجيا عن العمل بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واتخذت بينها وبين الله ودينه وسائط، واستعان بعض أبنائها على بعض بعدوهم حتى أكلوا جميعا، واستأثروا بأطراف الأمة رغبة في الاستقلال فصيرهم الله في أطراف العالمين نهبة للاستغلال، وتطاول عليهم العمر وما أفاقوا حتى أجلب عليهم العدو بخيله ورجله، وسامهم من الذل ما يشيب الولدان لهوله.
وها هو حال المسلمين من أقسى ما يمكن تصوره وتصويره، بل فوق ما يمكن وصفه وتقريره:
ففي مجال السياسة غاب الاتباع الرشيد لهدى القرآن الكريم وسنة الرسول الأمين، وغلب الانبطاح للقرارات الدولية التي تتذرع بالشرعية في وقت تحارب فيه الشرعية، وكثر النفاق والتسول السياسي والارتزاق بالكذب على الشعوب، والاستحواذ على المناصب وتوريثها، واتخاذها مطايا لكل ذي مصلحة مغرض وتخصيصها لكل معارض للدين أو عنه معرض.
وفي الاقتصاد ابتليت الأمة بالتبعية لإملاءات المؤسسات المالية وتخطيطاتها التي ترمي إلى سلب الأمة كل مقومات القوة فيها، ورهنها بالقروض و”المساعدات” لآماد بعيدة، وحالت بين الناس وبين الحياة الرغيدة.
وفي مجال التعليم أجبرت الأمة على التبعية لمقررات الأجنبي فكرا ومنهاجا، وتخلت عن التعليم الذي جعله الله تعالى طريقا للشهادة والريادة، وسبيلا للعبادة والسيادة، فأمسى تعليمها يخرج من أصلابها من ينخرها ويهدمها، فغلب على التعليم تنحية الدين، وتقوية لسان الأجنبي وإهمال اللسان العربي، وتوسيع دائرة علوم الدنيا على حساب علوم الدين، بل تصوير الأولى نافعة رافعة والثانية غير نافعة ولا رافعة، وتقديم الثانية أبدا متعارضة مع الأولى!! فتمكنت التبعية من الأمة فكرا وسلوكا، وضعف الاتباع لكتاب الله علما وعملا، وضعف الاعتزاز بالذات جوهرا ومظهرا، وزاد خط الانحرافزيغا وميلا.
وفي مجال الإعلام قصرت الأمة عن الأخذ بأسباب القوة وغفلت عما فيه من عناصر القوة، فصارت عالة على غيرها تبلغ ما أظهره، وتعجز عن الوصول إلى ما أخفاه عنها وأقبره، بل صار إعلامها أخطر سلاح ضدها، منه تنفث السموم في جسدها، وبه تنتشر كل رذيلة حالقة ماحقة وبه تحارب كل فضيلة راقية لائقة، ولا يطول لسانه إلا للكشف عن عورات المسلمين، وتهويل مصائب الجاهلين منهم والمغرضين، لكن يصيبه العي والحصر عن الإعلام بالخير وتعليم أمور الدين وما يرفع شأن الأمة في العالمين.
ولا يقتصر الأمر على ما ذكر فكل مجال حيوي في الأمة أو خادم للحيوي حرمنا مما فيه من المنافع وحالت بيننا وبينه الحوائل والمدافع، وكل ما يحقق للأمة القوة والعزة بالأصالة أو بالتبع صرنا فيه من الذيول والتبّع.
لكن رغم كل هذا فبشائر الخير قادمة ، وشرائط النصر بين أيدينا لا تزال قائمة؛ وأول تلك البشائر هذه المواكب من المسلمين في العالم العائدة لكتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من كل القبائل والعشائر، وبقدر اشتداد الشدائد تزداد البشائر، ويستعاد الوعي وتحيا الضمائر، وأول شرائط النصر تحرير الاتباع لله تعالى ولرسوله المصطفى والعمل بما شرع من الهدى ، والتحرر من التبعية لذوي الهوى، والاستقلال عن كل من صد عن الله وظن أنه استغنى: {قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق؟ قل الله يهدي للحق، أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يَهَدِّي إلا أن يُهدى؟ فما لكم؟ كيف تحكمون؟}(يونس:35).