إنه لمن أخطر ما تبتلى به أمة من الأمم شيوع الظلم والتظالم بين أفرادها، وضياع الحقوق بسبب العدوان على مقومات الحياة والعمران، وما شاع الظلم في قوم إلا عجل الله بخرابهم، قال جل وعلا : {وتلك القرى أهلكناهم بما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا}(الكهف : 58)، لذلك قرر الحكماء أن الظلم موذن بخراب العمران.
وإذا نظرنا إلى الظلم الواقع في الأرض وجدناه أنواعا ومراتب، ووجدناه ظلمات بعضها فوق بعض:
فأول نوع من أنواع الظلم وأعلاه وأخطره هو ظلم الإنسان لربه، بالإشراك به سبحانه قال تعالى : {إن الشرك لظلم عظيم} والاعتداء على حرمات ربه وتعدي حدوده {ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون}(البقرة : 227)، ومحاربة شرعه ورفض الاحتكام إلى كتابه : {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون}(المائدة : 47).
إن مظاهر هذا النوع من الظلم طمّت وعمّت ليس في بلاد غير المسلمين بل في بلاد المسلمين أنفسهم حتى كاد المرء أحيانا لا يستطيع أن يميز بين بلد مسلم وغير مسلم؛ ففي بلاد المسلمين:
- ترفع رايات للكفر جهارا.
- وتسن قوانين مضادة لأحكام الله وشريعته بل في كل يوم يمضي يدق مسمار جديد في نعش عقيدة المسلمين وشريعتهم.
- وتفرض التعاملات الربوية وتعمم.
- وتنتشر الدعارة والزنا وتجارة الجنس والشذوذ ولا تُحرّم ولا تُجرّم.
- وتنتشر الخمور ويجاهر بها وبغيرها من الفواحش والسيئات والمنكرات من غير رقيب ولا حسيب.
- ويضيّق على التعليم الإسلامي، ويغيب العلماء عن مراكز القرار والتوجيه والإرشاد والحل والعقد.
……
وثاني ظلم وهو دون الأول ومترتب عنه هو ظلم الناس بعضهم لبعض وتظالمهم فيما بينهم؛ ففي الحديث القدسي: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا))(رواه مسلم)، وصور وأشكال هذا النوع كثيرة ومتفاوتة تفوق الحصر :
- ساد التعامل بالرشوة بين الناس وساغ.
- انتشر التحايل على القانون والانفلات من العقاب وليّ أعناق التشريعات لحماية الفساد والمفسدين.
- انتشر الاحتكار والتحكم في رقاب الفقراء وتربية الفقر ورعايته.
- استشرى الفساد الإداري وضعفت النفوس أمام المال وحب الدنيا، فضيعت الأمانات الصغرى والكبرى، وغلب على الناس الاستهانة بالحقوق وضعف الإحساس بالمسؤولية واستشعار رقابة الله جل وعلا..
….
وظلم ثالث هو ظلم المرء نفسه بعدم إقامتها على الحق المبين وموجبات العقل السليم، وطاعتها في اتباع الأهواء والشهوات والشبهات.
وهذا هو أصل كل أنواع الظلم الأخرى السالفة.
والظلم كما يكون ماديا (كالاعتداء على الأجساد والممتلكات) يكون معنويا (كالاعتداء على الحقوق المعنوية للإنسان)، وكما يكون فرديا(بين الأفراد)، يكون جماعيا أيضا (بين الجماعة والفرد، وبين الجماعات وبين الدول …)، وهاهنا أيضا صور من الظلم يشيب لذكرها الولدان .
وبناء عليه، فإن نظرة إلى واقعنا تَقِفنا على كل هذه الألوان والصنوف التي أُخضعت لها رقاب الناس، ولا سبيل للخروج من هذه المظالم المظلمة إلا بأمور أساسية، منها:
- العودة بالأمة إلى الله تعالى وإلى دينها الذي ارتضاه لها، وتمكينها من حقها في التوبة والأوبة إلى الله ، وحقها في العيش تحت رحمة الله وولايته، وتمكينها من حقها في تقرير مصيرها الدنيوي والأخروي.
- مباشرة الإصلاحات انطلاقا من مقومات الذات الحضارية للأمة، بإحلال كتاب الله وسنة رسوله الصدارة في التشريع والتوجيه، وفي التربية والتعليم والإعلام، وفي السياسة والاقتصاد والقضاء.
- إصلاح تصور المسلمين قبل ذلك في الله إلها وربا، وفي اليوم الآخر وأثره في تقويم السلوك وتهذيب النفوس، وفي الرسالة والاتباع. فكل مظاهر الاختلال وصور الظلم أصلها انحراف في التصور وضعف الإيمان.
- وعلى رأس المؤسسات التي يلزم من إصلاحها إصلاح ما عداها مؤسسات التربية والتعليم والإعلام، ومؤسسات التوجيه والإرشاد الديني، إذ إليها يرجع أمر إصلاح الفكر والسلوك ، ومنها يبث الخير أو الشر، ولا نبالغ إذا قلنا إن حصون الأمة الأخرى دبت إليها عوامل التصدع والهدم لما تصدعت هذه المؤسسات ودب إليها الفساد.
فاتقوا الظلم، فإنه ظلمات في الدنيا والآخرة. واعلموا أن الله تعالى وعدنا بعدم إهلاكنا بارتكاب الذنوب والمظالم ما دام فينا مصلحون فقال جل شأنه: {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}(هود 117).
وعجِّلوا بالتوبة والاستغفار لتجنب أقسى الأخطار {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}(الأنفال : 33).