كلما رأيت حشود المحتجين تواصل الليل بالنهار بمناطق التوتّرالعربية، وتحديدا القطر السوري الشقيق، انتابني السؤال الكبير، ترى هل هذا الاحتشاد هو للنفس وحظوظها أم لله تعالى حتى يخلي الطغاة بينهم وبين ربهم دنيا وآخرة.. وهل أولئك الذين يقودون قاطرة هذه الاحتجاجات يدركون كيف تتنزل الولاية والنصرة لأخذ الظالمين أخذ عزيز مقتدر؟؟.
ولا عجب إن تاه المقصد الرباني من هذه الهبات في مجمل الدول التي تشهد هذا الحراك بين مؤمن صادق متربص به وناعق علماني وثوري غيفاري و”حاقد”، ولا عجب إن خف شباب للتبرؤ عبر مواقعهم بالأنترنيت من أي احتمال ” لتهريب”احتجاجات الجماهير ونسبها للفاعل الإسلامي، ففي كل محطات الاستهوان التي مر بمحطاتها العصيبة المواطن العربي حدثت رجات وصعقات من المظالم مست لا خبز هذا المواطن وكرامته فحسب بل حتى عقيدته وممارسة شعائره الدينية التي من أجلها استخلفه المولى سبحانه في الأرض، الشيء الذي جعل المواطن ينطوي على مشاعره الدينية آنا وينسلخ منها تحت سياط التغريب آنا آخر، حتى ليحسب المرء أن عملية غسل روح هذا المواطن على امتداد سنوات من التربص، موازاة مع عملية شفط كرامته وامتهان متطلبات جسده أتت أكلها بما يكفي ويزيد. وتحضرنا على سبيل الذكر مجموعة هائلة من التدابيرالزجرية والقمعية القاسية التي استهدفت التضييق على هذا المواطن في عباداته، مع انبجاس الصحوة الإسلامية العارمة، بأقطار عربية عديدة من بينها سوريا، وفي السياق يذكر العارفون بالملف الإسلامي بهذا البلد إبان حكم حافظ الأسد الذي دمر مدينة بكاملها بمساكنها على أهلها لقطع دابر الصوت الإسلامي، أن رسالة كانت تتداول على صعيد العلماء المسلمين، مصدرها من نساء سوريا السجينات بسبب حجابهن والتزامهن، حيث وجهن صرخة للمسلمين لاستنقاذهن من جبروت نظام حافظ الأسد الذي سلط عليهن جنوده داخل السجون لاغتصابهن ثم بقر بطونهن بعد حملهن، وإخراج الأجنة والفتك بها حتى لا تخرج المعارضين للنظام في المستقبل! ولا حول ولا قوة إلا بالله!
وفي سوريا كما في مناطق عربية عديدة، ظل الكيان المسلم المهيض يسبر “الحكرات” الأكثر فظاعة، ويسوغ احتجازه إما انعزالا وزهدا منحرفا أو سكرا وعنفا أوهربا إلى المنافي الغربية البعيدة، وإذ جاء أمر الله وفار التنور اشتعل هذا الكيان الرخامي، وشهدنا نماذج من الاحتجاج اليائس الذي ترفضه الشريعة الإسلامية جملة وتفصيلا، ويتعلق بحرق الذات. وإذا صهارة البركان الغافية تفيض بمكنونات الجوف المحاصر، وإذا الصهارة تنسفح لتحرق اليابس والأخضر، وإذا بالسواعد الشابة تقيء غضبها الحبيس دون أن تعير كبير اهتمام لمعايير النظام والحفاظ على الأمن والممتلكات، وقد سحبت منها آدميتها وحس مواطنتها وقيمها البانية الرشيدة فكيف لفاقد الشيء أن يعطيه، ويكفي على سبيل التذكير بمحطات سحق هذه الآدمية والمواطنة (دون التسويغ لفلسفة التخريب المرفوضة جملة وتفصيلا) أن يفتح المرء صفحات الحوادث بالجرائد العربية منذ فجر استقلال هذه الدول ليصعقه حجم سوء التدبيرعلى جل المستويات، والمفضي إلى اكتساح عشرات الشكاوى اليومية لمنابر الإعلام من لدن مواطنين اكتووا بالنار الحارقة لهذا التدبير الجاهلي المتسم بأكل أموال الناس بالباطل وإتلاف ملفاتهم والاستيلاء على حقوقهم، بموجب قانون المثل المغربي: (البغل زطم فالمراية) وهي حكاية شعبية تقول أن تاجرا استولى على منزل كان قد رهنه صديقه لديه لضيق ألم به، وذهب صاحب البيت ليشكو غدر صديقه وحمل معه هدية للقاضي وهي عبارة عن مرآة تقليدية جد جميلة، وتوسم خيرا من استقبال القاضي له وبشاشته في وجهه. ومرت أيام وفوجئ صاحب البيت بالحكم يصدر لصالح غريمه، ليضيع بالتالي حقه في بيته، فركض غاضبا إلى بيت القاضي مستفسرا، وعلم من مقربين لهذا الأخير أن خصمه عرف بحب القاضي للدواب الجيدة البنية، فأهداه بغلا قويا جميلا، وحين دخل عليه صاحب البيت مؤنبا سائلا إياه عن مرآته قال له جملته الشهيرة التي صارت مثلا (البغل زطم في المرآة).
وبصيغة أخرى ففي جميع ميادين هذا التدبير تعليما وصحة وعدلا واقتصادا… تبدى على مر عقود الغياب الكبير للتقوى بما تعنيه من خوف ورهبة من الله تعالى الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وفي المقابل ساد التصور الدنيوي المبني على سلخ جلد المستضعفين وتسور ظهورهم المحنية للتطاول في المتاع العابر.
إنه الجهل الذي يلد الجهل إلى ما لا نهاية، ويحضن الرد بالتي هي أسوأ عملا بقول الشاعر العربي القديم :
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلين
ويبدو أن دار الجهل لا زالت على حالها إن لم نقل أفحش، ففي بداية هذا الأسبوع صعقني شريط فيديو تتداوله محطات الأنترنيت ويبدو فيه جنود سوريون، وهم بالسيجارة في الفم يصلون ويسخرون ويقطعون السجود للانبطاح على الأرض والقهقهة وهم يخاطبون الله تعالى بكل سخرية ويكركرون ويعودون للسجود مرات ومرات.
شيء محزن ومبكٍ والله! أن تتضمن جبهة الممانعة والمعارضة للمشروع الصهيوني في المنطقة جيوشا تحيا بين فلولها الصادقة نماذج لجنود ملحدين وفي نفس الآن سفاحين، يسومون الناس سوء العذاب أمام كاميرات العالم وهم يركلونهم ويقطعون لحمهم ويستعذبون انفجار أدمغتهم!! يا للفاجعة! ألا يستحضرون تاريخ الزمن الماجد في ربوع الشام تزين صفحاته الغراء فتوحات مجاهد عظيم يدعى صلاح الدين الأيوبي الذي شكل رباطات لجيوش مجاهدة بكاءة على الله، صاقة مستغفرة بالأسحار وحاملة للسيوف الجبارة البثارة بالنهار!! وهي الخلطة العجيبة التي قاد بها صلاح الدين جيوش الفلاح لتحرير القدس الشريف، كيف لا يشعر المرء بالغبن وهو يرى القدس الشريف اليوم موضع مساومة وتهويد فاجع! ودولة فلسطين تقزم إلى بضع كيلومترات! ومع ذلك تعلن رائدة حقوق الشعوب العربية في الديمقراطية وتقرير مصيرها، أمريكا وبكل جرأة وبرودة أن لا حق للفلسطينيين في دولة وإن كانت دولة مسخ بلا حول ولا قوة.
هل نطمع بجنود من هذه الطينة التي عاينا مارقيها في سوريا وبلدان عربية أخرى في استرجاع الحق الفلسطيني في دولة كاملة السيادة.. وإزاء هذه الفلول الغاضبة من الشعوب العربية المهانة، ونحن نراها تعمر ساحات التحرير بالملايين من أجل حقوقها الدنيوية وساحات الاحتجاج على الجبروت الصهيوني وداعميه في المنطقة بالعشرات، هل نقول كما قال الشاعر قديما مع التحوير : اليوم خبز وكرامة وغدا دولة لفلسطين؟؟
أما أنا فأقول أمام تلاطم هذه الفتن : أوبة، أوبة إلى الله ليهدينا سبله، وما النصر إلا من عند الله.
ذة. فوزية حجبي