جرت العادة على أن يقلد المغلوب الغالب، هكذا قال ابن خلدون منذ قرون، ولعل من أسباب ذلك أن المغلوب يعتقد دائما أن الغالب يملك من أسباب القوة والذكاء والإبداع ما لا يملكه هو، وبذلك فهو يحسب أنه إن فعل فعله سيحسب من زمرة الأقوياء والأذكياء وأنه هو الآخر يملك من القدرات الإبداعية ما يملكه الغالب ذاته، بل إن البعض يذهب إلى حد التماهي مع الغالب منسلخا عن كل مقوماته الخلقية والدينية واللغوية والوطنية، بل ويذهب إلى حد التنكر لها جملة وتفصيلا.
بعض مظاهر التقليد بسيطة تصل إ لى حد السذاجة، وبعضها الآخر معقد مركب، ينم عن الشعور بعقدة النقص ومحاولة الظهور بمظهر الكمال.
من المظاهر البسيطة، أو التي أحسبها هكذا ما يتعلق باللباس، وموضوع اللباس موضوع ذو شجون، وأقف هنا فقط عند شكل من أشكاله مما يرتديه الشباب اليوم، وأقصد الذكور بالذات، وأما الإناث فذاك موضوع آخر.
بعض الشباب يرتدي سراويل من نوع القياس المنخفض (taille basse) بدرجة مخجلة جداً، إلى درجة أن ممن يرتاد المساجد منهم، تنكشف عورته بشكل فاضح أثناء السجود، لذا قلت إن هذا التقليد بسيط، لأن هذا الشاب لم ينتبه إلى ذلك، أو لم يجد أحداً ينبهه، أو ربما لا يعرف أن ستر العورة واجب من السرة إلى الركبة بالنسبة للذكور وخاصة في الصلاة.
وبعضهم الآخر يرتدي قمصانا مخجله مما تتضمنه من الكتابات التي أحسب أن العديد منهم لا يدرك مضامينها، وخاصة حينما تكون مكتوبة بلغات لا يعرفها اللابس. ومن العبارات التي استوقفتني مما هو مكتوب على هذه القمصان بلغات مختلفة وخاصة الإنجليزية العبارات التالية المسندة إلى ضمير المتكلم الذي يعود طبعاً على اللابس : ((هو حمار))، ((هو خنزير))، ((هو خاسر كبير)) وأحسب أن اللابسين لهذه القمصان لا يعرفون مضامين هذه العبارات وإلا ما لبسوها، ولهذا قلت إن هذا النوع من التقليد بسيط أيضا.
لكن هناك مظاهر أخرى للتقليد أعتبرها جد معقدة كاستعمال اللغات الأجنبية -وخاصة الفرنسية- بالنسبة لنا نحن المغاربة كليا أو جزئيا بشكل مفرط، إلى حد اتخاذها لغة التداول بين أفراد الأسرة، وتعويد الأطفال عليها، وفي المحال التجارية وفي الشارع ونحو ذلك، إلى درجة أن الذي لا يستعمل الفرنسية كليا أو جزئيا في حديثه وتواصله يعتبر متخلفا.
ومن ذلك أيضا التنكر لكل ما هو خُلقي أو ديني أو وطني والركض و راء الآخر إلى درجة الاستلاب والتماهي معه.
إن التقليد لا يصنع مجداً ولا يبني حضارة، ولم يعرف التاريخ حضارة شيدت على التقليد، بل على العكس من ذلك جرت العادة على أن تتسم كل حضارة بسماتها الخاصة، ذات الصلة بالدين والأخلاق واللغة والأعراف. أما الجانب العلمي والمعرفي فهو تراث إنساني تشترك في بنائه جميع الحضارات.
د. عبد الرحيم بلحاج