عن معاذ بن جبل قال : قلت يا رسول الله دُلَّـني على عمل يُـدخلني الجنة ويُـباعدني عن النار، قال : لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسّـره الله عليه : تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال : ألا أَدُلُّـك على أبواب الخير، قلت : بلى يا رسول الله، قال : ((الصوم جُـنّة، والصدقة تُطفِـئ الخطيئة كما يُـطفِـئ الماءُ النارَ، وصلاةُ الرجل في جوف الليل ثم تلا قوله تعالى : {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أُخْفِـيَّ لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون})) ثم قال : ((ألا أدُلُّـك على رأس الأمر وعموده وذِروة سَنامه)) قلت : بلى يا رسول الله، قال : ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذِروة سنامه الجهاد في سبيل الله)) ثم قال : ((ألا أدُلُّـك على مِلاك ذلك كله)) قلت : بلى يا رسول الله -وأخذ بطرف لسانه- ثم قال: ((كُـفَّ عنك هذا)) قلت : يا رسول الله وإنا لمؤاخَذون بما نتكلم به؟ قال :((ثَـكِلتْك أمُّك يا معاذ وهل يُـكِبُّ الناسَ في النار على وجوههم -أو قال على مناخرهم- إلا حصائدُ ألسنتهم))(1).
نبذة عن شخصية معاذ بن جبل رضي الله عنه:
هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس من بني أسد بن شاردة بن يزيد الخزرجي الأنصاري مات سنة 18 هـ في طاعون عمواس وكان عمره على الأصح 33 سنة(2).
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال :”من أراد الفقه فليأت معاذاً”(3).
وقال فيه صلى الله عليه وسلم :”معاذ بن جبل إمام العلماء”.
وقال فيه أيضا :”أقرؤكم زيد وأقضاكم عليّ وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل”.
دواعي سـؤال معاذ رضي الله عنه :
إذا كان سيدنا معاذ على هذه الدرجة من العلم فهل يكون بحاجة إلى أن يسأل؟
< ذلك أول درس أراد سيدنا معاذ أن يُلقِّـنَـنَاه
إن علمه لم يحمله، ولا يصح أن يحمله، على الاستكبار على طلب العلم قال تعالى: {وقل رب زدني علما}(طـــه : 114).
وإذا سأل فهل يكون سؤاله على هذه الدرجة من البساطة وهو في هذه الدرجة من العلم؟.
لقد تعوّدنا في اللقاءات العلمية من ندوات ومحاضرات ومؤتمرات…، إذا ما فتح باب المناقشة، أن نسمع أسئلة كثيرة يحاول السائل من خلالها أن يفصح عن مستواه العلمي، ولقد ارتبط عند كثير من الناس أن المتدخل يكون عالما بقدر ما يكون سؤاله معقدا وغير مفهوم، ولسنا نلحظ هذا في سؤال سيدنا معاذ رضي الله عنه.
< إن أي إنسان يعرف المستوى العلمي لسيدنا معاذ بن جبل فإنه يتوقع منه، إذا لقي سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم، أن يسأله عن أشياء صعبة وعميقة… فما السر في هذا السؤال؟
< هل يمكن أن نفهم أن سيدنا معاذاً كان يعرف الجواب وقد تعمّـد البساطة أم أن في السؤال سرا تكتنفه كلماته البسيطة؟
< هل أراد أن يعلم الناس،أي أن يتصدق على الأمة بهذا السؤال… ولم يكن قصده أن يتعلم ما سأل عنه وإنما كان قصده أن يتعلم الناس من سؤاله؟ وهكذا كان شأن العلماء عندما يلتقون بالعوامّ يتبادلون أسئلة يعلمون حاجة الناس إلى معرفة جوابها. لقد أدركوا معنى نسبة التعليم إلى السائل لا إلى المجيب في قوله صلى الله عليه وسلم :”…إنه جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم”(4).
< وهل كان ممن أدرك المراد من قوله تعالى: {ثم إن علينا بيانه}(القيامة : 19) وأن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو بيان للقرآن الكريم سيصل إلى كل الناس إلى قيام الساعة وأن هذا البيان له دوافع متعددة ومن أهمّها السؤال ولذلك بادر بالسؤال لينال شرف اقتران اسمه باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُتداول اسمه على ألسنة المحدثين والعلماء والفقهاء والصالحين إلى يوم القيامة؟ مع ما يصحب ذلك من الدعاء والترضي؟.
< المفروض في كل سائل أن يسأل عن خير يريد أن يصيبه أو عن شر يخاف أن يدركه ويعتبر ذلك، إذا ما تحقق له، فوزاً. وهل أراد أن ينبهنا إلى جامع الخير الذي يستحق الطلب وهو الجنة وجامع الشر الذي يستحق الهرب وهو النار والذي يستحق أن يسمى، بحق، فــوزاً لقـوله تعالى : {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز}(آل عمران : 185).
< وهل أراد أن ينبهنا إلى أن كل هدف في الدنيا عندما يتحقق يصبح وسيلة، فمثلا الإنسان يدرس ليحصل على الشهادة فتكون هي الهدف فإذا حققها أصبحت وسيلة يقدمها للحصول على وظيفة، فإذا حصل عليها أصبحت وسيلة للحصول على المال، فإذا حصل عليه جعله وسيلة لشراء سيارة أو منـزل أو غيرها من المتاع، وهكذا كل هدف في الدنيا إذا ما تحقق صار وسيلة إلى غيره… وما دام الأمر على هذا النحو فما هو الهدف الحقيقي الذي يستحق أن يكون هدفا لذاته؟ ولا يتحول إلى وسيلة؟
إن سيدنا معاذ بن جبل كان يعلم الهدف النهائي: إنه الجنة. لقد أدرك ذلك من قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا}(الكهف : 108). ومن قوله صلى الله عليه وسلم:”إن المؤمن لا يقنع من الخير حتى يكون منتهاه الجنة”.
وعلى المؤمن الفطن أن يجعل الجنة هي الهدف الأخير وكل هدف في الدنيا ينبغي أن يكون خادما له.
العمل الصالح وا لجنة :
< وهل أراد أن ينبهنا إلى أهمية العمل في قوله صلى الله عليه وسلم :”دُلَّـني على عمل”؟ ولقد قال تعالى: {وتلك الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون}(الزخرف : 72). وقال تعالى : {ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون}(الأعراف : 43).
لا يمنع من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :”لا أحد يدخل الجنة بعمله” قالوا :”ولا أنت يا رسول الله”؟ قال : “ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته”.
قال علماؤنا :”لا يظنّـنّ أحد أن عمله مهما كان عظيما يعدل الجنة أو يكون ثمنا لها” ولكنهم، أيضا، قالوا بأن العمل الصالح الخالص سبب في نيل رضا الله والدخول في رحمته.
وهذا فهم جيّـد وهو وسط بين طرفين أحدهما من اعتقد أن عمله وحده كفيل بإدخاله الجنة وثانيهما من اعتقد أن لا قيمة مطلقا للعمل وتركه بالمرة.
وإن معاذ بن جبل أسند الإدخال إلى الجنة إلى العمل الذي طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدله عليه باعتباره المكلف ببيان شرع الله تعالى وباعتباره الهادي إلى الصراط المستقيم، صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وأنه صلى الله عليه وسلم أقرّ هذا الإسناد مما يدل على صحته. ولو كان في هذا الإسناد ما يُـنكر لبيّـنه صلى الله عليه وسلم لأنه لا يسكت على المنكر.
< وهل أراد أن ينبهنا إلى أهمية الجندية وأنها شرط من شروط العبودية وأن الدرجات العالية من العلم التي أدركها معاذ رضي الله عنه لم تمنعه من أن يبقى جنديا وأن يعرض نفسه على القائد، وليّ الأمر، وأن يُـبدي استعداده للخدمة ولامتثال الأوامر؟. بل إن قبول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل به هو ثمرة العلم والدليل على الرسوخ فيه. وبقدر ما يحرص المسلم على التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والالتزام بما تلقاه عنه بقدر ما يكون عالما والعكس بالعكس. ولقد كان من شأن الصحابة رضي الله عنهم أن يطلبوا المعلومة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعملوا بها حتى في المسائل الشخصية التي لا يفكر كثير من الناس بأنهم بحاجة إلى الرجوع فيها إلى الشرع، جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :”يا رسول الله الرجل من قومي يسبّـني وهو أدنى منّي منـزلة أَفَأَرُدُّ عنه؟. إن الإنسان ليخجل أمام هذا السؤال وأمام هذه النفوس الكبيرة التي ترى أنها لا تملك من أمرها إلا ما أذن فيه الشرع لها.
هي إشارة رائعة إلى المرجعية لكل مسلم مهما بلغ من المراتب العالية…
إن هذا السؤال كان عظيما في تحديد الهدف الذي ينبغي أن يسعى إلى تحقيقه كل مسلم وعظيما في الوسيلة التي لا يمكن أن يتحقق هذا الهدف إلا بها، لقد تضمن هذا السؤال من جوانب العظمة ما لا يحيط به ولا يكافئه إلا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم :”لقد سألت عن عظيم”.
إن النبيّ صلى الله عليه وسلم وصف المسؤول عنه بأنه عظيم. ولا شك أن هذا الوصف يوحي بالشدة والصعوبة غير أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بادر إلى الكشف عن حقيقة في الشرع كبيرة وهي أن العظمة لا تتنافى مع اليسر : “لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسّـره الله عليه”. وبيّـن عليه السلام هذا العظيم اليسير (على العبد المؤمن) الميسّـر (من الله تعالى) وسيلة المؤدي إلى ذاك العظيم الممنون به رحمة( الجنة)، بيّـنه في أعمال معروفة بقوله صلى الله عليه وسلم: “تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت…”.
لا شك أن سيدنا معاذ رضي الله عنه كان يأتي هذه الأفعال وكذلك كثير من الصحابة الكرام، ولقد كان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في كثير من توجيهاته، أن يضعنا في الشُـرفة التي من خلالها يمكن أن نُـطل على جوانب العظمة في أعمالنا. ولا يخفى أثر هذا على العاملين لأنه يشعرهم بالفخر والاعتزاز بما يقومون به ويُـعينهم على تحمّـل ما يجدونه أثناء القيام به لأن من عرف ما قصد هان عليه ما وجد.
إن كثيرا من الناس، وعبر التاريخ الطويل، يعملون جاهدين على أن يشعروا المؤمن بأن ما يقوم به أمر تافه وأنه ينفق وقته وجهده وماله في التفاهات وأنه في دائرة التافهين وهذا الشعور، إن سمح له بالتمكن من النفس، فإنه يوهن العزائم ويفتّ في العضد ويوقف المسير.
لقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعمال المؤمن بالعظمة فلماذا يسمح لغيره بأن يحكم عليها أو أن يراجع فيها حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو حكم الله تعالى؟ وقد قال الحق سبحانه : {والله يقضي بالحق والذين تدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير}(غافر 20).
إلى جانب الإشارة إلى جوانب العظمة في أعمال المؤمن أشار عليه السلام إلى أمر آخر وهو التيسير الإلهي، لأن العظيم لا يكون يسيرا في أصله ن وهذا العظيم المذكور في هذا الحديث ليس يسيرا إلا لمن يسّـره الله عليه.
واقتران وصف هذا العمل بأنه عظيم بتيسير الله تعالى مهـمّ في التربية الإسلامية لأنه يدفع العُـجب ويشعر المؤمن بالافتقار إلى الله الكريم في هذا العمل كما في غيره من الأعمال.
ثم إن المؤمن عندما يجد نفسه وقد أدى هذه الأعمال، وأنها عظيمة في ميزان الشرع يعرف أنه لم يفعل ما فعل إلا بتيسير الله تعالى. وعلى قدر المعرفة بهذا الأمر يكون الشكر.
لقد كان سؤال سيدنا معاذ بن جبل عظيما ولقد كان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم. وعظمة سؤال السائل أبانت جانبا من جوانب عظمة المجيب، لقد أجاب على السؤال العظيم وزاد عليه ما يعلم حاجة السائل أو غيره إليه مما لم تدركه مسألة السائل.
وبطريقة تربوية رائعة تقتبس عبارة السائل :”دلّـني على عمل…”
فيقول له :” ألا أدلّـك على أبواب الخير”؟،
“ألا أدلّـك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه”؟
“ألا أدلّـك على ملاك ذلك كله”؟.
يعرض عليه علوما لم تدركها مسألته أو قصر عنها علمه ولكنه صلى الله عليه وسلم يعلم حاجته إليها وحاجة من ورائه إليها فيكافئه على رغبته في التعلم ليس فقط بأن يعطيه جوابا كافيا ولكن بأن يضيف عليها هذه الزيادة المباركة. وكان هذا من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة قال يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإذا توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر؟ قال صلى الله عليه وسلم :”هو الطهور ماؤه الحل ميتته”.
في هذا الحديث يعرض النبيّ صلى الله عليه وسلم على سيدنا معاذ رضي الله عنه ثلاثة أمور كلها تخدم الهدف الأول اثنتان ايجابيتان فعليتان ينبغي فعلهما والثالثة سلبية تركية ينبغي تركها.
< أبواب الخير التي يسعى المؤمن إلى استفتاحها ليصل إلى الخير أو يصل الخير إليه وهي الصوم والصدقة وقيام الليل. وكأن بين المؤمن والخير سور له أبواب مؤصدة لا تُـظهر ولا تُـنقب، لا الخير يستطيع أن يصل من خلالها إلى المؤمن ولا المؤمن يستطيع أن يصل من خلالها إلى الخير. ولا تفتح إلا بهذه المفاتيح: الصوم والصدقة وقيام الليل.
< رأس الأمر وعموده وذروة سنامه الإسلام الذي ينبغي أن يستمد منه المؤمن فكره وثقافته وعلمه وحكمه على الأشياء…، به يعيش وبه يأتمر وبه ينتهي وبه يرى الأشياء وبه يسمع وبه ينطق…إنه رأس الأمر لا بد أن نسلم له زمام أمورنا ليضطلع بهذه الوظائف فينا.
ولا بد من إقامته بالشعائر الظاهرة علينا ليقوم ويرتفع ويظهر، كما أراد الله له، على الدين كله.
ولا بد من الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله.
< حفظ اللسان وكفه هو الملاك لكل ما سبق، معلومة فاجأت سيدنا معاذ كما تفاجئ عموم المسلمين اليوم. “وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله”؟
” ثكلتك أمك وهل يُـكبّ الناسَ في النار على وجوههم -أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم”؟.
ذاك عمل يدخل الجنة ويباعد عن النار سأل عنه وهذا عمل يُـكبّ في النار ويفوِّت على صاحبه لم يسأل عنه.. فهلا سألنا نحن عنه في زمن انطلقت فيه الألسن فلا قيد ولا ضابط؟. : {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم}(هـــود 43).
د. لخضر بوعلي
——-
1- أحمد والترمذي في الإيمان وابن ماجة في كتاب الفتن
2- فتح الباري شرح صحيح البخاري ج 7 / ص 125.
3- فتح الباري شرح صحيح البخاري ج7 /ص 126
4- حديث جبريل عليه السلام الذي أخرجه الإمام البخاري من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.