تقديم
هذا الحديث يتضمن قضايا متعددة ومتكاملة أذكر منها:
أنه جمع بين:
* الغيب المطلق والغيب النسبي
* الحقائق العلمية والحقائق الغيبية
* المادي والروحي
* المطلوب شرعا والمطلوب طبعا
* العام الشامل الذي لا يستثنى منه أحد والاستثناء
* الخوف والرجاء
وغير ذلك مما يمكن للقارئ الكريم أن يستنبطه بالتأمل ..
والجمع بين هذه المتقابلات في موضوع واحد وبالدقة اللازمة لا يتيسر إلا لمن: “لا ينطق عن الهوى” صلى الله عليه وسلم.
إن استفتاح الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بعبارة : ((حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق)) يوحي بأن الرجل، وهو خبير بالوحي ومعانيه، توقع أن يجد بعض المسلمين -ضعاف الإيمان وذوي الأفق المحدود في العلم الشرعي- صعوبة كبيرة في فهم هذا الحديث وما يحمله من المعاني الكبيرة، ولذلك بدأ هذا الحديث بهذه العبارة النادرة في الحديث النبوي الشريف والتي من شأنها أن تقطع الطريق أمام ما يمكن أن يلقيه الشيطان من الريب في نفوس بعض المسلمين لأن هذه العبارة تذكر القارئ لهذا االحديث بصفة الصدق الواجبة في حق جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وفي سيدهم من باب الأولى.
الغيب المطلق والغيب النسبي
الغيب هو كل ما غاب عن حواس الإنسان أو عن إدراكه سواء حجبه عنه حجاب الزمن أو المكان أو قصُر عنه علمه.
ومنه ما هو نسبي يغيب عن بعض ولا يغيب عن بعض آخر أو يغيب عن أهل زمن ولا يغيب عن غيرهم (ولو كان في الماضي) ولذلك قال عن أخبار الأمم السابقة : {تلك من انباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا}.
ومنه ما هو غيب مطلق لا يعلمه إلا علام الغيوب وقد أخبرنا سبحانه بالكثير من جزئياته فآمن به من آمن وكفر به من كفر. ومن ذلك حقائق البعث والنشور والحساب والجزاء وغير ذلك مما يقع في ذلك اليوم العظيم..
والغيب بنوعيه النسبي والمطلق أشار إليهما قوله تعالى : {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق}. فتحقُّقُ وتأويل الغيب النسبي، المعبر عنه بالإراءة، دليل على تحقق الغيب المطلق لأنهما كانا غيبا في لحظة من اللحظات والذي أخبرنا بهما واحد، فإذا صدق في كل جزئيات الأول، وجب عقلا أن يكون صادقا في كل جزئيات الثاني وإلا فكيف نصدقه في هذا ولا نصدقه في الآخر.
يتجلى هذا الجمع بين الغيب المطلق والغيب النسبي في هذا الحديث من خلال إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن حقائق علمية تتعلق بالأتراب التي يتقلب فيها تكوين الإنسان وانتقاله من نطفة إلى علقة إلى مضغة، وتحديد المدة الزمنية لكل مرحلة، وهي حقائق ثبتت علميا بالدقة المنصوص عليها في هذا الحديث وقد كانت غيبا عاما لا علم لأحد بها عندما نطق الصادق المصدوق بخبرها.
إن تصديق الزمن لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر تطلب قرونا متطاولة لم يكن للمؤمنين فيها إلا قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ((…وهو الصادق المصدوق)) وقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه : ((إن كان قال فقد صدق)).
لكن الغيب الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أصبح حقيقة، فما موقف الناس منها؟ هل يصدقونها ؟ بالطبع، لا أحد أصبح الآن ينكرها .
وما موقف الناس مما في هذا الحديث من الغيب الذي لا يزال غيبا؟ هل يصدقونه أم ينظرون تأويله؟
فإن كذبوه، وهو أمر وارد، فكيف يصدقونه في هذا ويكذبونه في غيره؟ : {هل ينظرون إلا تاويله يوم ياتي تاويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل…}.
المادي والروحي
من روائع هذا الحديث أن جمع بين الحديث عن أمور مادية و أمور روحية ويتجلى ذلك من خلال:
- تفاصيل مراحل تكوين جسم الإنسان والإخبار عن الملك ونفخ الروح والأجل والخاتمة (نسأل الله الكريم حسنها)…
- تفاصيل مهمة الملك وهو مأمور بكتب الرزق والعمل، وهي أمور مادية، وكتب الأجل والخاتمة بالإضافة إلى نفخ الروح وهي أمور روحية غيبية.
إن الجمع بين المادي والغيبي في الكلام أسلوب من أساليب الوحي الحريص على إقناع الناس وهدايتهم و إقامة الحجة على المعاندين منهم : {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}.
ومن الأمثلة على ذلك أنه في ليلة الإسراء والمعراج – باعتبارهما من أبرز المعجزات- جمع الله تعالى فيهما لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بين المادي والغيبي.
وهو جمع اقتضته حكمة الحكيم سبحانه لأن الإسراء فيه جوانب مادية يمكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطي الدليل عليها لأنها كانت إلى مكان في الأرض قد زاره الكثير منهم في رحلة الشتاء والصيف وبإمكانهم أن يختبروه بأسئلة عن المسجد الأقصى ومكوناته وعن قوافلهم التي ذهبت إليه ولم تعد بعد. وهو ما وقع فعلا، وجاءت أجوبة الصادق المصدوق مطابقة للواقع تماما .
وهذا لا يتيسر في حديث الحبيب صلى الله عليه وسلم عن المعراج لعدم وجود من رآه .
وصدقه صلى الله عليه وسلم في خبر الإسراء دليل على صدقه في خبر المعراج.
المسؤولية والقدر
أشار الحديث إلى ما سبق تقديره من الخبير البصير لكل واحد من عباده وما كتب لهم من الأرزاق والآجال والأعمال والخواتم .
وموضوع القدر من القضايا العقدية التي أفاض فيها المتكلمون وخلاصة مذهب أهل الحق في المسالة أن العليم قدّر كل شيء وجعل الإنسان بعقله واختياره وقدرته مسؤولا عما يصدر عنه.
وإذا كان بعض الناس يريدون، ظلما وزورا، أن يتذرعوا بالقدر ليطلقوا العنان لأهوائهم ويتركوا العمل الذي أوجبه الله تعالى عليهم، فإن هذا الحديث، بطريقة رائعة، يردّ هذا الأسلوب ويجعل صاحبه متناقضا مع نفسه.
إن الله تبارك وتعالى قد أرسل الملك للجنين وأمره بكتب رزقه وأجله وعمله… وإذا كان هناك من يترك العمل الصالح والاستعداد للآخرة بدافع الإيمان بالقدر فلماذا لا يترك طلب الرزق بنفس الدافع؟ ولماذا لا يكتفي فيه بما كتب الله له؟ بل لماذا يطلبه حتى بالحرام؟… : {بل الانسان على نفسه بصيرة ولو القى معاذيره}.
القاعدة والاستثناء
أشار الحديث إلى مسألة من أخطر المسائل وهي مصير الإنسان وخاتمته.
من جهة قد سبق بها القلم وكتبت لكل واحد وهو في رحم أمه.
ومن جهة أخرى فهي مرتبطة بالعمل الذي يكسبه العبد ويرتهن به.
الأصل أن العبد المؤمن الذي يلتزم منهج الإسلام ويداوم على العمل الصالح يكون مصيره الجنة بإذن الله ورحمته، وأن النار مصير الذي يتنكب الصراط ويخوض في الدنيا كما تخوض الوحوش في البرية : {يثبّــت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء}.
إلا أن حكمة الحكيم اقتضت أن يكون هناك استثناء يدفع الغرور والعجب عن أهل الصلاح ويدفع اليأس والقنوط عمن زلت بهم الأقدام . ويملأ قلوب الصالحين خوفا بعد أن ملأها الصلاح رجاء. ويملأ قلوب المذنبين رجاء بعد ما ملئت خوفا بما اقترفته أيديهم. والخوف من عذاب الله والرجاء في رحمته من مقتضيات الإيمان بالجليل الجميل سبحانه.
إن الرجل الصالح إذا غابت عنه هذه المعاني قد يكون هو ذلك الأحد الأول.
وإن الرجل المسئ الذي أدرك هذه المعاني قد يكون ذلك الرجل الثاني.
ما يستفيده الدعاة
أن الناس جميعهم، برّهم وفاجرهم بل والدعاة أنفسهم، موضوع دعوة إلى الله.
أما الصالح فيجب تذكيره وتثبيته والعناية به إلى آخر لحظة من حياته لئلا يكون ذلك الأحد الذي يضيع في آخر الطريق.
وأما الفاجر فيجب الطمع في هدايته وصلاحه إلى آخر لحظة من حياته لعله يكون ذلك الأحد الذي ينقذ في آخر الطريق.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
> ذ. لخضر بوعلي