قد يعحب القارئ من هذا التساؤل ويرد للتو متسائلا أيضا: كيف بك تسأل هذا السؤال؟ أليس المسلمون متوحدين في قبلتهم؟ أليس كلهم -منذ نزل الأمر بتحويل القبلة إلى اليوم- يتجهون نحو الكعبة حرسها الله جل وعلا؟ هل يوجد مشهد أعظم من مشهد المسلمين وهم يقفون صفوفا متراصة حول الكعبة المشرفة قبلتهم الوحيدة؟ وهل توجد أمة أكثر توحدا في قبلتها مثل أمة الإسلام؟
أقول لصاحبي رويدك أنا لا أقصد توحيد القبلة بالمعنى الحسي، وإن كان هذا مما يدخل في المعنى من وجه يأتي بيانه، ولكن أقصد أن يتوحد المسلمون في قبلتهم المعنوية أيضا، فما معنى أن تتوحد أجسادهم في اتجاه القبلة وقلوبهم شتى؟ ومذاهبهم لا تعد ولا تحصى؟ وما معنى أن يكونوا مسلمين، وتتعدد ولاءاتهم وراياتهم، وتتباين توجهاتهم وشعاراتهم؟
لقد كان المسلمون منذ نزل الوحي وبعث الله عز وجل محمدابن عبد الله صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا لا يدينون إلا بما أمر الله ونهى، وبما شرع وهدى، دليلهم كتاب الله وسنة رسوله، إليهما يرجعون، وبهما يحكمون، وهما قبلتهم التي إليها في كل شيء يتجهون.
لكن تطاول على الأمة عهد تحزبت أحزابا واتخذت لنفسها ألقابا، واتخذت من دون الله أربابا، ومن غير رسول الله وأصحابه أصحابا وأحبابا، وجعلت غير القرآن الكريم مصدرا وكتابا.
ففي قضايا الإيمان اتخذت كل طائفة لنفسها إماما، وبنت حوله كعبتها، وجعلت إليه وجهتها، وصنعت منه قبلتها، تقيدت برسمه، ووقفت عند فهمه، ولم تتجاوز حدود علمه، وألزمت الناس به، وبدأ اسم “المسلم” يختفي ويحل محله اللقب المذهبي، ووضعت وحدة المسلمين في اختبار عسير.
وفي مسائل الفقه والفروع بعد المسلمون عن قبلة القرآن والسنة وهداياتهما التي ربى عليها الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته، وبعدوا عن منهج التفقه والتعبد للهتعالى، وتوقفوا عند أفهام الرجال، فتعددت في المسلمين القِبْلات، وكثرت البوصلات، وتباينت الاتجاهات، وصار لكل فرقة إمامها، باسمه يتسمون وإليه ينتسبون؛ وغاب -مرة أخرى – الاسم الذي سمانا به الله جل جلاله وارتضاه لنا : {هو سماكم المسلمين}، وضعفت الوحدة بين المسلمين.
وفي باب السلوك صار للأمة طرق ومسالك توقفت عند بعض الصالحين ولم تتجاوزهم إلى النبع الأول القرآن الكريم وسنة وسيرة إمام المرسلين، وظهرت في المسلمين فتنة الانتساب لهذا الشيخ وذلك الولي والتلقب بلقبه، فمحي من المشهد مرة أخرى اسم “مسلم” وطمست روحه، وضاعت وحدة المسلمين.
بل إن تفتيت الدين إلى هذه الأبواب (عقيدة- فقه – سلوك) وجعلها جزرا معزولة لهو واحد من شر البلايا في الدين إذ انحصر فهم المسلمين للدين في الجزئيات وتبعض، فذاك يعتبر العقيدة هي الدين كله، وذلك يقف على الفروع ويعزلها عن الدين ويعدها هي الدين وهكذا، حتى أصبح الدين إما عقيدة فقط، وإما سلوكا وعملا فحسب، فوقع الفصام النكد بين العلم والعمل، وبين الإيمان والسلوك، وبين العقيدة والشريعة، فانفرط عقد الدين أو كاد، وانفرطت معه وحدة المسلمين وضاعت قبلتهم وتاهوا عنها.
وتوالت على الأمة بعد هذا التشرذم محن عظيمة وإحن جسيمة تجلت في تسليط الله تعالى عدوها عليها، فتكالبت الأمم على القصعة، وجعلت منها ألف قطعة وقطعة، وتمكن حب الدنيا من قلوب أهلها فجعلهم يباعون ويشترون كالبضاعة والسلعة، وجعل الافتتان بالغرب لكل منهم قبلة ولواء وشرعة، فتعددت المذاهب الغازية، وتنوعت الأفكار الإلحادية والعلمانية والإباحية، حتى كدت لا تجد من المسلمين إلا من يرتدي من الإسلام خرقة بالية، ويحمل أسامي خاوية، ويعتنق مذاهب طينية شرقية أو غربية، وها هنا ازداد اسم “المسلم” اختفاء روحا وشبحا، جوهرا ومظهرا، وتشرذمت الأمة إلى كيانات قطرية كقطع الغيار، وتوزعت مذاهب وأحزابا ليس بينها إلا الحديد والنار، ولا تأتمر إلا بأمر ساداتها الكبار، ولا تنتهي إلا بنهي دول الاستكبار أصحاب النفوذ والقرار.
أيها المسلمون! هل بعد هذا التعدد والتشرذم من مزيد، لمن كان يلقي السمع وهو شهيد؟ ألا من توبة وأوبة إلى الله وحده، واتباع لرسوله الخاتم وحده؟ ألم يأن الأوان أن ننزع كل اللافتات التي رانت على الأمة عبر الأعصار، وننبذ وراءنا كل التحزبات والتشيعات التي عصفت بنا وبديننا كالإعصار، ولم تخلف وراءها إلا الخراب والدمار؟ ألم يحن الوقت بعد لنتوحد على :”لا إله إلا الله محمد رسول الله”؟ وتكون قبلتنا واحدة في السياسة والقضاء والاقتصاد، وفي السلوك والاعتقاد، كما هي واحدة في الصلوات الخمس والجمع وبعض الأعياد؟
إن الأمة محتاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى استلهام مفهوم القبلة الجامع، ولمّ شملها وجمع أطرافها وأوساطها، وتوحيد ولائها لله ربها، ومحتاجة أكثر من أي وقت مضى إلى فقه مقاصد الدين في توحيد القبلة، وتوحيد شهر الصيام، وتوحيد مواقيت الحج، وتوحيد الكتاب المتعبد بتلاوته، والرسول المتعبد باتباعه.
فإذا كان مشهد المسلمين جميلا وهم يقفون صفا واحدا حول الكعبة وأمام رب الكعبة، فقيرهم إلى جانب غنيهم وحاكمهم ملتحم بمحكومهم، ولهم إمام واحد تنقاد له الأرواح والأجساد، فالأجمل أن يقفوا صفا واحدا أمام رب الأرباب ويتخلوا عن كل الأحزاب والألقاب، وأن يقف الغني إلى جانب الفقير سرا وعلنا، والقوي إلى جانب الضعيف حسا ومعنى، ويلتحم الحاكم مع المحكوم جوهرا ومظهرا، والأجمل أيضا أن تأتلف أرواحهم وإن اختلفت أشباحهم، وتتفق قلوبهم وأحوالهم وإن اختلفت صورهم وأشكالهم، ويكونوا كالبنيان المرصوص لحماية القصعة من كل المعتدين واللصوص.
نعم لقد آن الأوان لنفقه كل هذا وننتقل كل من موقعه إلى قبلتنا الواحدة في كل شيء: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}.