رسو الله صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان
لا شك أن شهر رمضان هو شهر الجود والكرم، شهر البر والغفران، شهرٌ يتسارعُ الناس فيهِ إلَى فعلِ الخيراتِ والإنفاقِ مِنَ الطيباتِ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهمَا قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ))(متفق عليه).
قال ابن حجر في شرح هذا الحديث: (أجود الناس) أي: أكثر الناس جوداً، والجود: الكرم وهو من الصفات المحمودة، وقوله: (أجود بالخير من الريح المرسلة) أي: المطلقة، يعني في الإسراع بالجود أسرع من الريح، وعبَّر بالمرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة، وإلى عموم النفع بجوده كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه. (انظر فتح الباري ص:140).
وذكر الزين بن المنير وجه التشبيه بين أجوديته صلى الله عليه وسلم بالخير، وبين أجودية الريح المرسلة: أن المراد بالريح ريح الرحمة التي يرسلها الله تعالى لإنزال الغيث العام الذي يكون سبباً لإصابة الأرض الميتة وغير الميتة، أي: فيعم خيره وبره من هو بصفة الفقر والحاجة، ومن هو بصفة الغنى والكفاية أكثر مما يعم الغيث الناشئة عن الريح المرسلة. (انظر فتح الباري ص:141).
وقال بعضهم: فضل جوده على جود الناس، ثم فضل جوده في رمضان على جوده في غيره، ثم فضل جوده في ليالي رمضان، وعند لقاء جبريل؛ على جوده في سائر أوقات رمضان، ثم شبه بالريح المرسلة في التعميم والسرعة. وقال ابن الملك معللاً: لأن الوقت إذا كان أشرف يكون الجود فيه أفضل. (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 6/444).
يقول ابن عمر رضي الله عنه: (ما رأيت أجود ولا أمجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقال الشافعيُّ رحمه الله تعالى: (أحبُّ للرجل الزيادة بالجود في رمضان؛ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثيرٍ منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم). (الحاوي في فقه الشافعي 3/479).
إن شهر رمضان موسم المتصدقين، وفرصة سانحة للباذلين والمعطين، وإن الصيام يدعوك إلى إطعام الجائع، وإعطاء المسكين، وإتحاف الفقير. الله عز وجل أعطـاك فابذل من عطيته فالمـال عارية والعمر رحال. والمال كالماء إن تحبس سواقيه يأسن وإن يجر منه يعذب منه سلسال.
رمضان : فضائل وفوائد
يقول ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف: وفي تضاعف جوده صلى الله عليه وسلم في رمضان بخصوصه فوائدُ كثيرةٌ منها:
> شرف الزمان ومضاعفةُ أجر العمل فيه؛ وفي الترمذي عنأنس مرفوعاً: ((أفضلُ الصدقةِ صدقةُ رمضانَ))(رواه الترمذي في السنن).
> إعانةُ الصائمين والذاكرين على طاعتهم، فيستوجبُ المعينُ لهم مثل أجورهم، كما أن من جَهَّز غازياً فقد غزا، ومن خلفَه في أهله بخير فقد غزا.
> أن الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في الجنة غُرفاً يُرى ظهورُها من بطونها، وبطونُها من ظهورِها)) فقال أبو موسى الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟ قال: ((لمن طَيَّبَ الكلامَ، وأطعمَ الطعامَ، وأدامَ الصيامَ، وصلَّى بالليلِ والناسُ نيام))(رواه أحمد في مسنده)، وقال شعيب الأرناؤوط: حسن لغيره وهذا إسناد ضعيف. وهذه الخصالُ كلُّها تكونُ في رمضان، فيجتمع فيه للمؤمن الصيام، والقيام، والصدقة، وطيب الكلام، فإن الصائم ينهى فيه عن اللغو والرفث.
> والصلاة والصيام والصدقة: توصلُ صاحبها إلى الله عز وجل، وقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أصبح منكم اليوم صائماً؟)) قال أبوبكرٍ: أنا، قال: ((من تَبعَ منكم اليوم جنازة؟)) قال أبوبكرٍ: أنا، قال: ((من تصدقَ بصدقةٍ؟)) قال أبوبكرٍ: أنا، قال: ((من عاد منكم مريضاً؟)) قال أبوبكرٍ: أنا، قال: ((ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة))(رواه مسلم في الصحيح).
> أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغُ في تكفير الخطايا، واتقاء جهنم، والمباعدة عنها، خصوصاً إن ضُمَّ إلى ذلك قيام الليل فقد ثبت عن معاذٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماءُ النارَ…))(رواه الترمذي في السنن). وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: صلُّوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور، صوموا يوماً شديداً حرَّهُ لحرِّ يوم النشور، تصدقوا بصدقة السرِّ لهول يوم عسير.
> أن الصيام لا بدّ أن يقع فيه خللٌ أو نقصٌ، وتكفيرُ الصيام للذنوب مشروطٌ بالتحفظ مما ينبغي أن يُتحفَّظَ منه، فالصدقةُ تجبر ما كان فيه من النقص والخلل، ولهذا وجب في آخر رمضان زكاةُ الفطر، طهرة للصائم من اللغو والرفث. (لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي ص:232).
يقول الحق سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الارْضِ}(البقرة : 267). ويقول أيضا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ}(التغابن : 16). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: ((قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ))(متفق عليه).
من صور الإنفاق في رمضان
للإنفاقِ صورٌ عديدةٌ، ومِنْ هذِهِ الصُّوَرِ :
> إطعامُ الطعامِ وإفطارُ الصائمينَ، ففيهِ تأليفٌ للقلوبِ وعطْفٌ علَى المحتاجينَ ومواساتُهُمْ، وكتابة الأجرِ العظيمِ والثوابِ العميمِ مِنَ اللهِ تعالَى، وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ فَطَّرَ صَائِماً كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئاً))(الحديث أخرجه الترمذي في السنن). فمَنِ استطاعَ منكُمْ أنْ يفطرَ صائمًا فليفعلْ فقدْ أمرَ اللهُ تعالَى بإطعامِ المحتاجِ، وقدْ قالَ سبحانَهُ فِي حديثِهِ القدسيِّ: ((يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي. قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي، يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي. قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِى فُلاَنٌ فَلَمْ تَسْقِهِ أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي))(أخرجه مسلم في الصحيح).
> كسوةُ الفقراءِ والمحتاجينَ وشراءُ كسوةِ العيدِ لَهُمْ، ففيهِ إدخالُ السرورِ عليهِمْ، وإغناؤُهُمْ عَنِ السؤالِ فِي يومِ العيدِ، يومُ الفرحِ والسرورِ، وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ((أَيُّمَا مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلِماً ثَوْباً عَلَى عُرْي كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الجنَّةِ) أخرجه أبو داود في السنن. وقدْ بشَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ كسَا أخَاهُ بأنَّهُ يظلُّ فِي حفظِ اللهِ تعالَى ورعايتِهِ فقالَ: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلِماً ثَوْباً إِلاَّ كَانَ فِى حِفْظِ اللَّهِ مَا دَامَ مِنْهُ عَلَيْهِ خِرْقَةٌ))(أخرجه الترمذي في السنن).
> كفالةُ اليتيمِ، فاليتمُ حالةٌ اجتماعيةٌ قدْ تحدثُ فِي أيِّ بيتٍ، وهذَا حبيبُ اللهِ ورسولُهُ سيدُنَا محمدٌ صلى الله عليه وسلم وُلِدَ يتيمًا وعاشَ يتيمًا، فهيَّأَ اللهُ تعالَى لهُ مَنْ يقومُ بكفالتِهِ وخدمتِهِ، فلمَّا بعثَهُ اللهُ نبيًّا ورسولاً للعالمينَ ذَكَّرَهُ بِيُتْمِهِ وأمرَهُ بالإحسانِ إلَى اليتيمِ، فكانَ صلى الله عليه وسلم رحيمًا بالأيتامِ عطوفًا عليهِمْ مُرغِّبًا أمتَهُ فِي الإحسانِ إليهِمْ، ووعَدَ مَنْ أحسَنَ إليهِمْ برفقتِهِ فِي الجنةِ حيثُ قالَ صلى الله عليه وسلم : ((أنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الجنَّةِ هَكَذَا. وَأشارَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى))(أخرجه البخاري في الصحيح).
والإسلامُ برعايتِهِ وكفالتِهِ للأيتامِ إنَّمَا ينظرُ نظرةً عميقةً إلَى المستقبلِ، فربَّمَا باركَ اللهُ تعالَى فِي هذَا اليتيمِ فكانَ سببًا فِي نَهضةِ المجتمعِ وريادتِهِ وتحقيقِ العزَّةِ والكرامةِ لهُ.
ولقَدْ أوصَى الإسلامُ باليتامَى وأولاَهُمْ اهتمامًا كبيرًا، وأحاطَهُمْ برعايتِهِ، وحذَّرَ مِنْ ظُلْمِهِمْ، وسَنَّ لَهُمْ مِنَ التشريعاتِ مَا يصونُ كرامتَهُمْ، ويحفظُ عليهِمْ أموالَهُمْ، ويؤمِّنُ مستقبلَهُمْ، فقدْ جاءَتْ نصوصٌ كثيرةٌ فِي ذلكَ، قالَ اللهُ سبحانَهُ وتعالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمسَاكِينِ}(النساء : 36). وقالَ عزَّ وجلَّ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ اصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}(البقرة : 220).
> السعْيُ علَى الأراملِ وعلاجُ المرضَى والمحتاجينَ، والتصدُّقُ علَى الفقراءِ والمساكينِ، ونشْرُ كتبِ العلمِ ومساعدةُ طلابِهِ ، وجميعُ أبوابِ البِرِّ والخيرِ.
خــتــامــاً :
تذكر أيها الصائم أن رمضان يدعوك للبذل والعطاء، ورحمة الفقراء والمساكين، وهي دعوة في ذات الوقت لنفسك لتقرض ربك في الدنيا فيكرم قرضك يوم تلقاه: {إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}(التغابن : 17). وتذكر أن الأموال والكنوز والقصور مآلها إلى الزوال والضياع، وليكن حداءك قول رسولك صلى الله عليه وسلم : ((ما نقصت صدقة من مال))(رواه مسلم في الصحيح).
هذا وقد حث الإسلام الناس على العمل، ومدح العاملين الذين يسعون لكسب الرزق، ونَهى عن السؤال، واعتبر التسول من الظواهر السيئة التي تسيء إلى الفرد والمجتمع. لذلك لا يمكن لأي أحد من المتسولين أن يستغل عطف المواطنين والمقيمين على العمل الخيري، وحرصهم الشديد على فعل الخير في شهر رمضان المبارك.
د. عمر أجة