أ- تعريف الحضارة :
لفظ (الحضارة) لم يرد في القرآن الكريم، وإنما وردت مشتقات (حضر) في عدة مواضع منه، بمعنى الحضور والشهود أي : ضد الغياب، ولم يرد بالمعنى الاصطلاحي للحضارة.. وعليه فلا نجد في القرآن مصطلحا يدل على مفهوم محدد للحضارة بصورة ما، لكن مؤشرات المفهوم وعناصره تستفاد من مفاهيم أخرى تشترك معه في الدلالة، كالأمة، والعمران، والاستخلاف، والشهود، وغيرها من المفاهيم التي تتأسس عليها رسالة الإسلام للبشرية منذ آدم إلى خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، هذا فضلا عن ما ورد في القرآن من المبادئ والقيم والتشريعات كلها تشكل أسسا ومرتكزات لبناء حضارة إنسانية وإيمانية متميزة، كما سيأتي بيانه لاحقا.
أما(الحضارة) بمعناها الاصطلاحي عند المختصين فلها تعار يف عدة، تختلف باختلاف مذاهب الباحثين واتجاهاتهم، وتتعدد بتعدد الجوانب الحضارية التي يركز عليها كل باحث، غير أن المهتمين بالموضوع -مسلمين وغير مسلمين- يكادون يتفقون على أن الحضارة لاتقوم إلا على فكرة فلسفية أوعقيدة دينية، تنبثق عنها مبادئ وقيم وآداب تتجلى في أفكار الناس وفي سلوكهم وإنتاجا تهم العلمية والأدبية والفنية وغيرها،
يقول المفكر والداعية المسلم مالك بن نبي رحمه الله :”ومن المعلوم أنه حينما يبتدئ السير إلى الحضارة لا يكون الزاد بطبيعة الحال من العلماء والعلوم، ولا من الإنتاج الصناعي، تلك الأمارات التي تشير إلى درجة ما من الرقي، بل إن الزاد هوالمبدأ الذي يكون أساسا لهذه المنتجات جميعا(1).
وهوما يؤكده المفكر الألماني مؤرخ الحضارات (ألبرت أشفيتسر) الذي يعرف الحضارة تعريفا موجزا بقوله :” الحضارة هي التقدم الروحي والمادي للأفراد والجماهير على حد سواء..”(2) ويضيف قائلا في مكان آخر :
“ولما بحثت في ماهية الحضارة وطبيعتها تبين لي في ختام المطاف أن الحضارة في جوهرها أخلاقية”(3).
وعلى منواله درج باحثون ومفكرون مسلمون، كالمفكر التربوي د. مقداد يا لجن الذي يرى أن أهم مايميز الحضارة في نظر الإسلام هي : “تقدم المجتمع وتفوقه من الناحية المادية والمعنوية في جميع مناحي الحياة الإنسانية، بروح خيرة، ونحوغاية خيرة في ضوء القيم الإسلامية”(4)، وكذا د. هاشم بن علي بن أحمد الأهدل في قوله: “الحضارة تتمثل في تقدم المجتمع وتفوقه من الناحية المادية والمعنوية والتنظيمية في جميع مناحي الحياة الإنسانية لإعمار الأرض وفق حاجات الأمة في ضوء المنهج الإلهي”(5).
وإذا كانت الحضارة أنماطا ومستويات ولها تعاريف عدة، فالسؤال الذي يفرض نفسه هو: ما حقيقة التحضر في السلوك الإنساني ؟ وهل للتحضر معيار محدد؟
ب - حقيقة التحضر ومعاييره :
إذا كان لفظ التحضرفي جانب السلوك الإنساني يعني التلبس بنمط حضاري معين بامتصاص قيمه الحضارية والتفاعل معها وإظهارها في السلوك والمعاملات، وإذا كانت الحضارة أنماطا ومستويات حضارية متنوعة، فالسؤال الوارد هو: ما نوع الحضارة التي ننسب إليها السلوك المتحضر؟ وما مقياس التحضر المطلوب؟؛ في أي منحى وفي أي اتجاه يكون؟ أهوفي تغيير السلوك والعادات والتقاليد مسايرة لنمط المجتمعات المتقدمة ثقافيا وصناعيا؟ وهوما يسمى بالتطور والتمدن العصري؟ أم هوالتحضر في الفكر والسلوك المنضبط بالأخلاق والقيم المثالية والدينية معا؟ أم هوالتحضر العلمي والثقافي في مختلف جوانب الحياة مجردا عن القيم..إلى غير ذلك من التساؤلات؟
ولعلنا بالرجوع إلى المستويات الأولى للحضارة وقارنا حياة الحضريين وسلوكهم بحياة البدويين وسلوكهم، يتضح لنا الفرق بين السلوك المتحضر والسلوك غير المتحضر، إذ بضدها تتميز الأشياء، كما يقال، وهوما ذهب إليه ابن خلدون لما عقد فصلا للمقارنة بين حياة البدويين، وحياة الحضريين، ويرى أن البداوة أصل الحضارة في قوله : (فصل في أن البدوأقدم من الحضر وسابق عليه وأن البادية أصل العمران والأمصار مدد لها)، ومما جاء تحت هذا العنوان في مقدمته قوله : ((قد ذكرنا أن البدوهم المقتصرون على الضروري في أحوالهم العاجزون عما فوقه، وأن الحضر المعتنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم، ولاشك أن الضروري أقدم من الحاجي والكمالي، وسابق عليه، لأن الضروري أصل والكمالي فرع ناشئ عنه، فالبدوأصل للمدن والحضر، وسابق عليهما لأن أول مطالب الإنسان الضروري، ولاينتهي إلى الكمال والترف إلا إذا كان الضروري حاصلا، فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة، ولهذا نجد التمدن غاية للبدوي يجري إليها وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها، ومتى حصل على الرياش الذي يحصل له به أحوال الترف وعوائده، عاج إلى الدعة وأمكن نفسه إلى قياد المدينة وهكذا..))(6).
وإن كان هذا النص لا يشمل كل مميزات أخلاق الحضريين عن أخلاق البدويين، فقد ورد فيه ما يمثل الأهم والأصل لغيره، وهومقارنة حياة التقشف -عند البدويين- والاقتصار على ضروريات العيش وما يرتبط بذلك من مظاهر الخشونة، بحياة التنعم والترف -عند الحضريين- التي تهتم بالحاجيات والكماليات وما ينتج عن ذلك من عوائد الترف والتنعم والميل إلى الدعة والمسالمة، علما أن ابن خلدون ذكر بالتفصيل ـ في الفصول الأخرى من المقدمة ـ ما يميز أخلاق البدومن الكرم والشجاعة على أخلاق الحضر المتواكلين على حماية الولاة..الخ
ومعلوم أن أهم ما يميز الحياة البدوية هي؛ ظروف العيش في بيئة قاسية غالبا، وفي وسط يتسم بالعزلة وقلة الاختلاط، وانتشار الأمية وقلة العلم، وسياد ة ثقافة سطحية، والشعور بالحرية أوالتحرر من القيود والأنظمة الاجتماعية، إلا ما تفرضه الأعراف القبلية أوالمحلية، هذه الظروف لاشكأنها تفرز أنماطا من السلوك والقيم منها ما هوإيجابي كالصدق والشجاعة والوضوح والعفوية، والكرم، وما أشبه، ومنها ما هوسلبي مثل: التحفظ مما هوطارئ وأجنبي، وحب الانفراد والتفرد بالملكية أو بالكلام والزعامة، والتعصب وعدم التسامح مع الغير، وقلة التعارف والتعاون، وضعف الانسجام والتكيف مع الوسط الجديد أو مع الفكر الآخر…الخ
وبذلك يكون التحضر في مستواه الأدنى هو: العيش مع الجماعة في وسط حضري مستقر يحكمه نظام اجتماعي أو أنظمة معينة -قد تكون قسرية- وينتشر فيه العلم وتبادل الخبرات فتتسع دائرته الثقافية إلى حد ما. والعيش في هذا الوسط له انعكاس على سلوك الناس وأخلاقهم حيث تشيع فيه قيم واتجاهات وعادات متطورة أومحدثة، وأهم ما يميزسلوك الناس في مثل هذا الوسط المتحضر، قيم : الانضباط مع النظام والجماعة، ومراعاة الذوق العام ، الانفتاح والتسامح مع ثقافة الآخرين وعدم التعصب للرأي الخاص، ثم الاستعداد للتعاون والشعور بالمسؤولية العامة وهكذا.
ج - التحضر في ميزان الإيمان والتقوى :
وحيث إن المقام يحرز -كما يقال- فلا يهمنا التحضر بمعناه العصري الذي يفيد مواكبة التمدن الصناعي الغربي وما يرتبط به من القيم الاستهلاكية والمظاهر المادية، وعليه، فالمقياس الذي نحدد به التحضر هنا هومقياس إسلامي شامل لما هو (فكري، أخلاقي، اجتماعي)، ونقول : إن التحضر في ميزان الإيمان والتقوى هو: بلوغ أقصى درجة من السموالروحي والرقي الأخلاقي، وبعبارة وجيزة هوبلوغ درجة الإحسان في كل شيء؛ في العبادة وفي العمل الصالح والخلق الحسن، فالمحسنون هم الذين يجسدون قيم التقوى في أداء الحقوق والواجبات وفي كل العلاقات الاجتماعية، وبذلك فهم يمثلون أرقي صفات النوع البشري، وكما لا يخفى فإن السمو الأخلاقي أوالفعالية السلوكية، هي غاية ومصب الفعاليات الأخرى كلها؛ الفكرية والروحيةوالإنجازية، كما يستفاد من قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق))(7) وكذا من قوله تعالى : {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}(الملك :2).
فالأحسن عملا هم الأقدر على المنافسة على مراتب الإحسان التي يبلغ فيها الإنسان أرقى وأكمل مستويات تكامله النفسي، وانسجامه الاجتماعي وعطائه الحضاري، الذي تفيض خيريته على البشرية بل وعلى كل المخلوقات.
د. محمد البوزي
——–
1- شروط النهضة ص 55 عن د هاشم بن علي بن أحمد الأهدل في كتابه (أصول التربية الحضارية في الإسلام) طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ضمن (سلسلة الرسائل الجامعية) المملكة العربية السعودية 1428 هـ / 2007 م ص : 224.
2- فلسفة الحضارة ترجمة د زكي نجيب محمود ص 34 عن دمقداد يا لجن في كتيب( دور التربية الأخلاقية الإسلامية في بناء الفرد والمجتمع والحضارة الإنسانية( ط، دار الشروق أولى 1983 ص : 83.
3- نفس المرجع والصفحة.
4- ي نفسه.
5- في بحثه القيم: (أصول التربية الحضارية) سبق ذكره.
6- المقدمة ص 97.
7- مسند أحمد المستدرك والأدب المفرد للبخاري، صححه الألباتي في السلسلة الصحيحة 45.