لقد اختار الله لعباده مواسم ومحطات يستقبلون فيها نسائم رحمته وعزائم مغفرته، لعل المسيء منهم يؤوب إلى رشده ويتوب عن غيه فيصير لربه عبدا ذاكرا شكورا، وليزيد المحسن منهم إحسانا.
إنها مواسم تتجدد {لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا}(الفرقان : 62)، ومنها شهر الصيام الذي عظمه الله تعالى وكرمه وشرف صوامه وقوامه والمنفقين والمعتكفين فيه، فخصهم بعظيم الأجر ما ليس في غيره من الشهور، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: ((كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به))(متفق عليه).
ومما لا يخفى أن الغاية من تشريع الصيام هي الارتقاء في مدارج الشرف والصعود في معارج التقوى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}(البقرة :177) ولن يتم ذلك حقا إلا بالارتقاء في معارج أعمالها وأخلاقها وإخلاص النية المصاحبة لهما.
ومن أخلاق التقوى التي يساهم الصيام في ترقيتها وتنميتها وزيادة رصيدها: الصبر والشكر، فهما بمثابة جناحي المؤمن بهما تعرج روحه إلى ربها فتسعد بما آتاها ولا تقنط مما فاتها، وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم في قوله: ((عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له))(رواه مسلم ). فما حقيقة الشكر؟ وكيف يرقيه شهر الصيام حتى يصير سجية للعبد؟
1- حقيقة الشكر:
يقول الراغب الأصفهاني في مفرداته: “الشكر تصور النعمة وإظهارها، ويضاده الكفر وهو نسيان النعمة وسترها. وأصله اللغوي الذي أخذ منه: قولهم: دابة شكور: مظهرة بسمنها إسداء صاحبها إليها، وقيل أصله من عين شكرى أي ممتلئة، فالشكر على هذا الأصل الثاني هو الامتلاء من ذكر المنعم عليه.
والشكر ثلاثة أضرب: شكر القلب وهو تصور النعمة، وشكر اللسان وهو الثناء على المنعم، وشكر سائر الجوارح وهو مكافأة النعمة بقدر استحقاقه، ومنه قوله تعالى: {اعملوا آل داود شكرا}(سبأ : 13) أي اعملوا وما تعملونه شكرا لله تعالى”(1).
ولما كانت نعم الله أكثر من أن تحصى وأجل أن تكافأ بقدر ما تستحق، فإن شكر المنعم سبحانه الشكر التام وتوفيته حق ما أنعم به على عباده أمر صعب، قال تعالى: {وقليل من عبادي الشكور}(سبأ : 13) إذ كيف يمكن توفية الخالق الرازق حق نعمتي الإيجاد والإمداد معا؟
وعلى رأس الشاكرين لله تعالى الذين عرفوه حق المعرفة فعبدوه وشكروه قدر وسعهم ، الأنبياء والرسل الذين اجتباهم ربهم واصطافهم، فتشربوا الوحي وانصبغوا بصبغته حتى أصبحت أخلاقه وقيمه ظاهرة بادية على سلوكاتهم وأقوالهم، فها هو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يقول بملء فيه، تعبيرا عن امتلاء قلبه حبا لربه وشكرا:{أفلا أكون عبدا شكورا؟) لما سئل عن قيامه بين يدي خالقه حتى تفطرت قدماه، فلقد تحقق صلى الله عليه وسلم وتخلق بقيمة الشكر قلبا ولسانا وجوارح كما أثنى سبحانه وتعالى على إبراهيم ونوح عليهما السلام بالشكر، فقال في إمام المسلمين: {شاكرا لأنعمه}(النحل :121) وقال في أول المرسلين: {إنه كان عبدا شكورا}(الإسراء : 3).
2- شكر العبد في رمضان:
رمضان موسم إيماني لصبغ العبد بقيمة الشكر وترسيخها فيه فكرا وسلوكا، تعبيرا وتدبيرا، حتي تصير سجية من سجاياه ومكونا أساسيا من مكونات شخصيته، ولا يتم ذلك إلا باستحضار المعاني التالية:
< الصوم، شأنه شأن أية عبادة مشروعة، شكر على نعمة الهداية:
أعظم نعم الله على الإنسان بعد نعمة الإيجاد، نعمة الهداية، قال تعالى: {سبح اسم ربك الاعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى}(الأعلى، 1-3 )، والإنسان لو قضى عمره عابدا مسبحا، صواما قواما، ما وفى هذه النعمةحقها. ولحمده سبحانه وشكره عليها نصيب في عبادتنا “ففي الصلاة فريضة ونافلة نقرأ سورة الحمد وهي الفاتحة، التي تتضمن بعد بدئها بحمد الله تعالى والثناء عليه، طلب الاستمرار في الصراط المستقيم: {اهدنا الصراط المستقيم}(الفاتحة، 5). وبعد ركوعنا نقول : سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وهذا شكر آخر، بل الصلاة كلها جعلت لذكر الله وشكره، كما قال سبحانه: {وأقم الصلاة لذكري}(طه، 13). وفي عبادة الحج يهدينا القرآن إلى جعل الأنساك شكرا لله على الهداية، قال تعالى: {كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين) ( الحج، 35). أما الصيام فقد أمرنا فيه بالشكر على الهداية أيضا، فقال تعالى: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون}(البقرة : 185)، فالتكبير هنا وفي آية الحج شكر على الهداية”(2).
< الصوم شكر على نعمة إنزال القرآن:
اقترن شهر رمضان بالقرآن لأنه الشهر الذي أنزل فيه هذا الكتاب العظيم: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن}(البقرة : 184). وإنها لنعمة عظيمة خص الله بها هذه الأمة دون سائر الأمم، حيث قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا}(المائدة، 4)، فوصف سبحانه إنزال القرآن بأنه نعمة ونسبها إليه تشريفا وتعظيما لقدرها، مما يستوجب شكرا خاصا يناسبها أو يقارب، فشرع لذلك عبادة الصيام لمدة شهر كامل ولأجل إزالة العلائق البشرية الحاجبة عن إبصار الأنوار الإلهية المبثوثة في الآيات والسور القرآنية.
فما كان رمضان وما كان الصيام إلا لأجل القرآن، وهذا ما فهمه السلف الصالح فحفزهم هذا الفهم على الاهتمام بالقرآن تلاوة وتدبرا وحفظا وبلاغا مستحضرين ما وعدهم ربهم من عطايا عظيمة، ومنها ما ذكره صلى الله عليه وسلم في حديثه: ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده))(أخرجه مسلم).
فمن منن الله علينا أن أذن لنا رغم بشريتنا وضعفنا وتقصيرنا أن نناجيه بقراءة كتابه وتدبر معانيه، قال ابن الصلاح: ” قراءة القرآن كرامة أكرم الله بها البشر، فقد ورد أن الملائكة لم يعطوا ذلك وأنها حريصة على سماعه من الإنس”(3). ومن أجمل صور الشكر المناسب لهذه المنة أن ننور صدورنا بنور كلامه وأن نحيي أنفسنا بغيث وحيه حتى نستحق تكريمه فنكون من أهله وخاصته، قال صلى الله عليه وسلم : ((أهل القرآن هم أهل الله وخاصته))(رواه ابن ماجة، ح215).
وما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أيضا أن القرآن يذكر تاليه أناء الليل وأطراف النهار بنعم الله ومننه عليه، فلا تكاد تخلو أية سورة من سوره من ذكر وإبراز لآلائه المستوجبة للشكر التي لا ينكرها إلا جاحد معاند، فالتالي مثلا لقوله تعالى: {ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين، وهديناه النجدين}(البلد : 8- 10) يقف على ما وقف عليه مجاهد، وهو أن”هذه نعمة من نعم الله الظاهرة، يقررك بها كيما تشكر”(4). ولو أردنا أن نحصي كل النعم المذكورة في الآيات القرآنية لعجزنا، فلله الحمد والمنة على ما أسبغ علينا من نعمه الظاهرة والباطنة.
< شكر الله تعالى على المنح والعطايا التي خص بها عباده في شهر الصيام:
خص الله عباده المطيعين في هذا الشهر الكريم بمنح كثيرة تفضلا منه سبحانه وتكرما، بينها وجلى قدرها النبي صلى الله عليه وسلم في جوامع كلمه، ومنها:
> العتق من النيران ودخول الجنان:لقوله صلى الله عليه وسلم : ((الصيام جنة من النار كجنة أحدكم من القتال))(رواه أحمد)، ((من صام يوما في سبيل الله عز وجل زحزح الله وجهه عن النار بذلك اليوم سبعين خريفا))(متفق عليه)، ((إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد))(متفق عليه)، ((إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجان وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب ، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة))(صححه الحاكم).
> مغفرة ما تقدم من ذنوب العبد: لقوله صلى الله عليه وسلم : ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر))(رواه مسلم)، ((من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه))(متفق عليه).
> إجابة الدعاء: لقوله صلى الله عليه وسلم : ((إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد)).
> بركات ليلة القدر: فمن بركاتها أن الله تعالى جعل العبادة فيها خير من عبادة ألف شهر: {ليلة القدر خير من الف شهر}، وأن الملائكة تعمر الأرض يتقدمهم جبريل عليه السلام، يؤمنون على دعاء الناس ويستغفرون لهم ويسلمون على أنفسهم وعلى المؤمنين: {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر}، ومن بركتها أيضا أنها ليلة الحكم بشقيه، الحكم الشرعي المتمثل في أحكام القرآن، والحكم القدري: {فيها يفرق كل أمر حكيم امرا من عندنا إنا كنا مرسلين}(الدخان، 3- 4)، يضاف إلى ذلك أن من أحياها بإخلاص غفر له ما تقدم من ذنبه: ((من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه))(متفق عليه).
فما أعظمها من منح وما أجلها من بركات ، ولا شكر للمنعم بها إلا بامتثال ما شرع من صيام وقيام مع إيمان العبد واحتسابه.
3- درجات الشكر:
يرى أهل العلم أن الشكر على درجتين: شكر واجب يؤدى بأداء الواجبات وترك المحرمات ، وكل نقص في ذلك يعد نقصانا في الشكر يقدر بقدره، ولهذا قال بعض السلف: “الشكر ترك المعاصي” وقال بعضهم: “الشكر ألا يستعان بشيء من النعم على معصيته”(5). وشكر مستحب يقتضي بعد آداء الفرائض وترك المحرمات آداء النوافل من الطاعات، وهي درجة الأولياء المقربين.
وشهر الصيام فترة تدريبية للترقي من درجة الشكر الواجب إلى الشكر المستحب، إذ يغرس في العبد حب فعل الطاعات من قيام وصدقة وذكر وتلاوة ودعاء واعتكاف…حتى يتخلق بها فتصير من خصاله التي يسعد بفعلها ويصاب بالوحشة والضنك بتركها والغفلة عنها.
فإذا صام العبد شهره إيمانا واحتسابا تحقق وتخلق بمنزلة الشكر فعلا، واستلذ بثمراتها وخيراتها التي أجملها الحق سبحانه في قوله: {لئن شكرتم لأزيدنكم}(إبراهيم، 9).
د. إبراهيم بن البو
———
1- المفردات/ مادة شكر
2- روح الصيام ومعانيه،ص101.
3- الإتقان في علوم القرآن، ص 53.
4- الدر المنثور، 8/521.
5- انظر: روح الصيام، ص 103.