لقد عرف المغرب، كغيره من الدول العربية، حراكا سياسيا وشعبيا قويا، مطالبا بإصلاحات اقتصادية واجتماعية وسياسية.
هذا التحرك الشعبي أفضى إلى تشكيل لجنة وطنية تكفلت بوضع دستور جديد للبلاد.
وجدير بالذكر أن المغرب أقر دستوره الأول بعد الاستقلال سنة 1962، وأدخل عليه تعديلات سنوات 1970 و 1972 و1980 و 1992و 1996.
ويمكن القول إن الدستور الجديد (2011) هو الدستور الثاني للبلاد بعد دستور 1962، باعتبار التغييرات الوازنة التي طالت فصوله، والتعديلات الكبرى التي همت توزيع السلطات والصلاحيات داخل دواليب الدولة.
فبعد ثلاثة أشهر من المشاورات والنقاشات، تم عرض الوثيقة الدستورية النهائية، على استفتاء شعبي يوم الجمعة فاتح يوليوز الجاري(2011).
وبصرف النظر عن نسبة المشاركة، أو نسبة المصوتين لصالح الدستور، ونسبة المعارضين له، أو نسبة المقاطعين للتصويت، فإن السجال احتد بالخصوص، حول مسألة هوية الدولة المغربية، ومجال انتمائها، وكذا المرجعية التي تستقي منها تشريعاتها.
والواقع، أن هذا النقاش حول الهوية والمرجعية، هو نقاش قائم لدى فئة محدودة من “النخبة” التي لا تمثل إلا نفسها، بحيث هي فئة معزولة عن الشعب المغربي الذي حسم أمر هويته منذ قرون، فهو شعب مسلم، وأرضه أرض إسلامية، والبلاد جزء من العالم الإسلامي.
ومما يثلج الصدر، أن الدستور الجديد الذي صوت عليه المغاربة بالإجماع، حافظ على التكريس الدستوري للهوية العربية والإسلامية للبلاد.
وهكذا، جاء في تصدير الدستور صيغة : “المملكة المغربية دولة إسلامية”.
وتم تأكيد ذلك مرة ثانية ودائما في التصدير : “أن الهوية المغربية تتميز بتبوؤ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها”.
كما ذكرت الهوية العربية والإسلامية مرة ثالثة في التصدير، بصيغة : “تعميق أواصر الانتماء إلى الأمة العربية والإسلامية”.
إن هذا التأكيد على الانتماء الإسلامي للمغرب والمغاربة، في تصدير الدستور الجديد، هو انتصار للحق والمنطق والواقع، ذلك أن إسلامية الدولة المغربية، هو في الواقع من قبيل تحصيل الحاصل، لأن الشعب المغربي لم ولن يقبل أي مرجعية أو تعديل لهويته العربية والإسلامية الثابتة.
ومما تداولته الأخبار في الساعات الأخيرة لميلاد الدستور الجديد، أن اللجنة المكلفة أقرت بأن المغرب دولة مدنية، وتم حذف صيغة الدولة الإسلامية، ولولا ضغط بعض القوى الحية والغيورة على ثوابت الأمة “لكان هذا الدستور سببا في كارثة كبرى”(1). لأنه مهما تغيرت القوانين الوضعية وتعدلت، فإن المرجعية الإسلامية ينبغي أن تبقى ثابتة ولا يلحقها التعديل، لأن في ذلك تهديدا للاستقرار.
كذلك من الصيغ التي تم حذفها في اللحظات الأخيرة، وهي مرتبطة بمسألة الهوية، قضية حرية المعتقد مع أن “حرية المعتقد محققة على أرض الواقع بالمغرب، لكن التنصيص عليها في الدستور كان من أجل الترويج لها وإغراء الناس بها”(2). وهو ما كان سيمثل خطورة كبرى على تدين الناس وعزتهم بانتمائهم الإسلامي.
ولقد أقر الدستور الجديد في فصله الأول كذلك : “تستند الأمة في حياتها العامة على ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الإسلامي السمح” وهو تأكيد جديد على أن مسألة الدين الإسلامي، في صلتها بصيانة وحدة الأمة أمر لا محيد عنه، وغير قابل للنقاش مهما نعق الناعقون.
بل إن إسلامية الهوية ستتعزز أكثر في الفصل الثالث من الدستور والذي جاء على الشكل التالي : “الإسلام دين الدولة”.
إن هذا التأكيد المتكرر على مسألة الهوية الإسلامية في أسمى قانون وضعي يحدد ويقيد طبيعة النظام العام الذي ينبغي أن يسود في البلاد، لما في ذلك من مصلحة عامة للأمة. يبين بجلاء مدى رسوخ هذه الهوية، وعمق مكانتها في التاريخ المغربي.
ومن تجليات انتصار الهوية الإسلامية كذلك ما نجده في الفصل 32 من الدستور والذي أكد على أن “الأسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع”، وهو جواب قوي وحاسم ضد الأصوات النشاز التي تحاول شرعنة بعض السلوكات المشينة والمرفوضة مجتمعيا قبل أن ترفض قانونيا.
حيث أقر الدستور الجديد أنه لا مجال لتشكيل أي أسرة إلا في الإطار الشرعي الإسلامي.
ومن ناحية أخرى، فإن إقرار الدستور الجديد للغة العربية، لغة رسمية للبلاد، في الفصل الخامس الذي جاء بصيغة : “تظل اللغة العربية اللغة الرسمية للدولة، وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها، وتنمية استعمالها” فيه اعتراف بأولوية اللغة العربية، وبأنها لا تنفصل عن مسألة الهوية الإسلامية، فاللغة العربية لغة القرآن الكريم {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}، ورسول هذه الأمة محمد صلى الله عليه وسلم عربي تحدث العربية، وبلغ الرسالة بالعربية، وكلامه صلى الله عليه وسلم المثبوث في السنة، فيه من بلاغة التعبير، وفصاحة القول، ما يؤكد على متانة لسانه العربي.
واضح إذن ارتباط اللغة العربية بالإسلام، وارتباطها بهوية الأمة، فقد أثر عن ابن تيمية قوله : إن اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا باللغة العربية”.
كما أن الإمام الشافعي قال : “ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب”.
إن أهمية اللغة العربية تكمن في كونها تعد من مقومات الوحدة الإسلامية، وبذلك فهي ضمانة أساسية للوحدة والاستقرار التي يقابلهما التشتت والفتن الطائفية.
إن المأمول أن يتم تفعيل دور اللغة العربية، في مختلف مجالات الحياة العلمية والعملية، فينبغي أن تكون المعاملات والوثائق الإدارية محررة باللغة العربية، وينبغي أن تتم دراسة العلوم العصرية كالرياضيات والطب والفيزياء باللغة العربية، وينبغي كذلك أن يكون إعلامنا عربيا وينتصر للعربية في إطار حفظ وحدة الأمة وهويتها الإسلامية.
إن الدستور الجديد كقانون وضعي، لا يمكن وحده أن يضمن صيانة الهوية الإسلامية ما لم تتضافر الجهود إلى تفعيلها، كما لا يمكنه أن يغير من ثبات ورسوخ الشرعية الإسلامية للشعب المغربي ولو أصر على ذلك من أصر لأن هوية المغاربة ثابتة. لذلك لا بد من أن يتبع إقرار هذا الدستور الجديد خطوات عملية ومستعجلة، من شأنها حماية البلاد من أي منزلقات خطيرة. وأولى مداخل هذه الخطوات، القيام بإصلاحات أساسية في مجال التعليم بشكل يتوافق مع تثبيت الهوية العربية والإسلامية في مقرراته. وبرامجه. أما ثاني الخطوات، فهي إصلاح منظومة الإعلام، وجعلها وسيلة لحماية الهوية الإسلامية للشعب المغربي، ومنبرا للدفاع عن الانتماء العربي والإسلامي للبلاد.
عبد الرحمن غربي
—-
1- مصطفى العلوي ـ الأسبوع ع 648
2- أحمد الريسوني ـ أخبار اليوم ع 484.