بسم الله الرحمن الرحيم و الحمد لله مصرف الأيام و الأعوام القدوس السلام، والصلاة والسلام على خير مبعوث لخير أمة أخرجت للناس وعلى كل من اهتدى بهديه إلى يوم القيام.
ثم أما بعد؛ فإننا سائرون إلى الله بمدة أعمارنا شئنا أم أبينا، لحياتنا نقطة بداية ونقطة نهاية؛ قال تعالى : {هَل اتَى عَلَى الاِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً}(الإنسان : 1)، وقال تعالى { يَا أَيُّهَا الانسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ الى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ}(الانشقاق : 6)؛ أي ساع إليه -بما معك من العمل- لا محالة ولا مفر، فملاقيه؛ لأن الموت رجوع إلى الله، نعم هي رحلة العمر من العدم إلى لقاء الله.. ونحن مسؤولون عما بين تينك النقطتين فهل من معتبر مذكر؟
ومن البلية أن طائفة من المستلبين فكريا من بني جلدتنا أضحوا لا يكترثون لماض، ولا يتطلعون إلى مستقبل، ولا يحفظون للوقت قدرا؛ بل يعيشون للبطن ويُسَبِّحون بحمد الغريزة ويقدسونها، يعيشون يومهم ليومهم، بل اللحظة للحظة.. باعوا البركة والبكور بالنوم والخمول، ألفتهم النوادي والطرقات، واشتكت منهم المقاهي والشاشات، ولازمتهم البطالة والآفات.. فتفننوا في إفناء الأعمار وإهدار الأوقات؛ إلى حد السفه الموجب للحجر عليهم(1) قبل أهل الأموال والممتلكات.. حتى نطق لسان حالهم : “نريد أن نقتل الوقت”… ما أجرأهم على الله، ما عادوا يكتفون بسب الدهر، لقد صاروا أكثر اجتراء وجرما؛ يريدون قتل الوقت.. والنتيجة : تفيدنا التقارير الرسمية أن عطاء الإنسان الأوربي اليومي يتجاوز السبع ساعات، في حين تفيد أن عطاء الإنسان المسلم لا يتجاوز ثلاثين دقيقة…
يا ليتهم علموا أنهم قطعة من الزمن، لحظات وشهور وسنون.. وقتلهم للوقت قتل لجزء حيوي فيهم.. إنه انتحار بارد، قال ابن القيم رحمه الله : “إضاعة الوقت أشد من الموت”. ليتهم علموا أن الإنسان بهذا العمر اليسير يعيش الامتداد في الزمان، ويشتري الخلود في الجنان، وبالتفريط فيه يقع في الخسران..
هل هذه هي نظرة السلف الصالح إلى الوقت وعلاقتهم به؟ أبهذا نشروا الدين في الآفاق؟ أم بهذا حصلوا أستاذية الأمم وريادة الحضارات؟ لا وألف لا.. فتعالوا لننظر شيئا من حالهم والوقت.
لقد تربى السلف الصالح في مدرسة معلم البشرية صلى الله عليه وسلم القائل : >نعمتان من نعم الله مغبون فيهما كثير من الناس؛ الصحة والفراغ<(2)، فأثمرت فيهم هذه التربية المباركة حتى كانوا يعدون أنفسهم جزءا من الوقت، ويعدون الوقت جزءا منهم، فعاشوا على هذه العقيدة وبها خلد التاريخ ذكرهم؛ قال الحسن البصري رحمه الله : “يا ابن آدم إنما أنت أيام، كلما ذهب يومك ذهب بعضك”. واعتبر الحسن البنا رحمه الله الوقت : “هو الحياة؛ فما حياة الإنسان إلا الوقت الذي يقضيه من ساعة الميلاد إلى ساعة الوفاة”.
ولله در الشاعر إذ صور تضاؤل العمر وفناء أيامه بغير رجعة قائلا :
وما المرء إلا راكب ظهر عمره
على سفر يفنيه باليوم والشهر
يبيـت ويضحي كل يوم وليلة
بعيدا عن الدنيا قريبا إلى القبر
لهذا وغيره كان السلف الصالح حريصين أيما حرص على أوقاتهم، لأنهم كانوا أعرف الناس بقيمة الوقت، حتى وصف الإمام الحسن البصري رحمه الله حال من أدرك منهم قائلا :”أدركت أقواما كانوا على أوقاتهم أشدَّ منكم حرصا على دراهمكم و دنانيركم”.
والذي أعظم شأن الوقت عند السلف الصالح أنهم كانوا يعتبرون الزمن الذي يحتوي الإنسان أحيازا تعتورها أعمال وواجبات، لأنه وعاء كل عمل، ووعاء كل عبادة، ووعاء كل توبة، بل رأس مال المسلم الذي يتاجر فيه مع الله؛ فكانوا يكرهون الفراغ والبطالة، ومن المجالس الثقل والإطالة، قال شعبة : “لا تجلســـوا فارغين فإن الموت يطلبكـــم”، وجاء رجل من المتعبدين إلى سري السقطي، فرأى عنده جماعة، فقال : “صرت مناخ البطالين” ثم مضى و لم يجلس. بل كانوا يحرصون على استغلال كل لحظة فيما يقرب من الله تعالى من سائر أنواع العبادات في مجالسهم وبعدها، حتى أوصى بعض السلف أصحابه فقال : “إذا خرجتم من عندي فتفرقوا، لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه، و متى اجتمعتم تحدثتم”.
وكانوا أشد الناس حسرة على ما ضيعوا من الأوقات، قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : “ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي”. و ممن كان يحفظ اللحظات ولا يقبل المساومة في الزمن عامر بن عبد قيس، قال له رجل : “قف أكلمك”، قال : “فأمسك الشمس”.
ما كانوا ينفكون عما يقربهم من الله وما كانوا يغفلون عنه ولو خاضوا في أمور دنياهم؛ جاء معاوية بن خديج يبشر عمر بن الخطاب بفتح الإسكندرية فوصل إلى المدينة وقت القيلولة فظن أنه نائم يستريح ثم عَلِمَ أنه لا ينام في ذلك الوقت، فقال لـه : “لئن نمت النهار لأضيعنَّ حق الرعية، ولئن نمت الليل لأضيعنَّ حق الله، فكيف بالنوم بين هذين الحقين يامعاوية؟”.
وكان داود الطائي يستف الفتيت ويقول : بين سف الفتيت و أكل الخبز قراءة خمسين آية، و كان عثمان الباقلاني دائم الذكر لله تعالى، فقال : “إني و قت الإفطار أحس بروحي كأنها تخرج لأجل اشتغالي بالأكل عن الذكر”..
هذه هي قيمة الوقت عند السلف الصالح، فحق للتاريخ أن يكتب على صفحاته بماء الذهب أسماءهم، وأن يخلد ذكرهم، فما قدره قدره غيرهم مثلهم.
فسر -أيها الأخ الكريم- إلى ربك سيرهم، واعلم أنك بالوقت تعيش، وبه تعرف الله وتتاجر معه، وأنك عنه مسؤول إن بددته، فإن علمت خطورته وحدة نصله(3) فأنفقه استثمارا لا استهلاكا، فإن “الليل والنهار يعملان فيك أيها الإنسان، فاعمل فيهما”(4). وصلى الله وسلم على نبينا الكريم.
ذ. الميلودي بن يحي خطاب
——-
1- الدكتور يوف القرضاوي : الوقت في حياة المسلم، ص : 16.
2- رواه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
3- من أقوال السلف الشهيرة : “الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك”.
4- قول لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.