قُدِّر لي أن أحمل إحْدى قريباتي إلى مستعجلات المستشفى الجامعي بفاس، بعد منتصف ليلة 2011/6/15، وهي تتقطع ألما بعد أن أصيبت بتَسمم نتيجة لأكلة خفيفة تناولتها في أحد المطاعم… دخلت قسم المستعجلات وبقيت أنتظر وأنظر وأسأل… أجساد تتقطع هنا وهناك، أشخاص يمرون ذهابا وإياباً “ولا أحد قال لي السلام عليكم” على حد تعبيرنا الدارج، بعد حوالي ساعة وربع ونحن في قسم “المستعجلات”، يأتي شخص من الطلبة الأطباء الداخليين ليكتب اسم دواء كان معروفا سلفاً لدي، يعطى لحالات التسمم العامة، وكان بإمكاننا أن نقتصر عليه في البيت، ولكن ذهبنا إلى المستعجلات بعد أن نصَحنا صيدلي بضرورة الذهاب إلى المستشفى، لأن حالة التسمم تبدو خطيرة، وقد تتطلب غسيلا للمعدة.
لكن عِوَضَ أن تُغْسل معدة المريضة، غُسِل ذِهني من أوهام كنت بنَيْتها في نفسي عن الوضع المتقدم لهذه البناية، وعدت أجر أذيال اليأس من الذي يأتي ولا يأتي حول مسألة علاج الأبْدان في هذا البلد السعيد.
طبعاً أنا في هذه الأسطر، ولا في غيرها، لا يمكن أن أُحمل المسؤولية للأطباء كأشخاص على اختلاف درجاتهم ومستوياتهم العلمية والتخصصية، لأنهم هم أيضا يعانون ما يعانون من أوضاع مزرية مادية ومعنوية، أبسطها دراسة حوالي ثلاث عشرة سنة جامعية، وتؤدي إلى راتب لا يسمن ولا يغني من جُوع مُتطلبات الحياة الحديثة، فضلا عما يمكن أن يتعرضوا له من أخطار مهنية، متعددة الأشكال والقياسات.
ولكن المسؤولية هنا للعقلية والثقافة السائدة حول طريقة التعامل مع المريض الذي ينبغي أن تراعَى أحواله الإنسانية أولا وأخيراً، لأنه ينتظر أن يسمع كلمة رحمة وشفقة، كلمةً تعيد إليه الأمل، كلمةً قد تجعله ينسى الألَم.
ثم إن أخذنا بعين الاعتبار ما نتوارثُه في ثقافتنا المغربية الشعبية، “أن الذي يرافق المريض هو المريض”… كيْف سيكون حال ذلك الشخص الذي يرافق مريضا إلى المستشفى ثم يشاهد ما شاهدته أنا.
في تلك اللحظات من ذلك الليل، تذكرت ما قاله لي أحد الأصدقاء، حينما ذهب سائحا إلى انگلترا واضطر هناك إلى أن يدخل أحَد المستشفيات لظروف صحية معينة، أدخلوه إلى غرفة، لم يسألوه عن اسمه ولا عن أي شيء، تولوا رعايته بالكامل، وبعد أزيد من 24 ساعة سألوه عن اسم أو رقم ليضعوه على عبوة الدم الذي أخذوه منه بُغية التحليل، وبعد أن قضى أياماً كلها تعهد وعناية وجاء وقت المغادرة سلّموه ملفه، وطلبوا منه أن يمر إلى بناية هناك، نعم هناك، بعيداً عن البناية التي مُرِّض فيها وبعد انتهاء عملية العلاج بأكملها ليسوي وضعيته المادية تجاه المستشفى.
كما تذكرت ما حدث لي شخصيا حينما أجريت لي عملية جراحية في فرنسا، تطلبت أول مرة من الطبيب الرئيسي للقسم أن يبقى مُلازِماً لي إلى حدود الواحدة والنصف ليلا، ليطمئن على استيقاظي من تخدير قُدِّم لي بجرعات غير مناسبة، وليترك بعد ذلك أعوانه من الأطباء المتخصصين، وليس الداخليين، ليتولوا تعهدي إلى أن أستيقظ بشكل تام.
قد يُقال : هذه بِلاد وتلك بلاد! هم عندهم وليس عندنا!! نعم صحيح، لكن ألا نملك جميعا قلوبا رحيمة توزع الرحمة والبسمة على الجميع، ألا نملك جميعاً عقولا نُفكر بها لنُطور تعاملاتها ومعاملاتها لنجعلها إنسانية، خاصة وأن الذي ذكرته عن أوربا، حدث منذ ما يزيد عن ثلاثين سنة. ألا يكفي ثلث قرن من التأخر لكي تقول على الأقل كلمة طيبة للمريض وتتعامل معه معاملة حسنة!؟
خاصة وأن ديننا الحنيف أوصانا منذ قرون بالوجه الطلق، وجعل التبسم في وجه الآخر صدقة وهو سليم معافى، فكيف به إذا كان مريضا؟
وأما الأُكلة التي أحدثت التسمم فموضوع آخر قد نعُود له في وقت لاحق إن شاء الله.
د. عبد الرحيم بلحاج