عرفت الأستاذ سيدي عبد اللطيف الحجامي منذ أواخر السبعينيات، ثم توطدت المحبة وترسخت عندما كنت أتابع دراستي العليا في المعهد الوطني للتهيئة والتعمير في النصف الأول من الثمانينيات، وبقيت كذلك إلى أن انتقل للرفيق الأعلى رحمه الله رحمة واسعة.. أمّا وقد رحل، فلا خوف من الوقوع في محاذير قطع الرقاب، بل وجبت الشهادة المثلى لله سبحانه، بما أدركناه وعلمناه ورأيناه ولمسناه في عالم الشهادة عن هذا الرجل الفذّ..
خـلـق سـامـق
لعل أكثر ما يجذب في شخصية سيدي عبد اللطيف الحجامي، تولاّه الله في الصالحين، هوجمال مكارم الأخلاق عنده.. كل من عرفه، لا بدّ وأن ينجذب إليه بمحاسن خلقه الرائع، إلى الحد الذي يعتقد فيه كل من عرفه عن قرب، أنه صاحب مكانة رفيعة لديه رحمه الله، أوعلى الأقل يشعر أنه من الثلة والصفوة القليلة المحدودة ذات الحظوة لديه : فمن مناقبه الأخلاقية العليّة، خفض الجناح بصدق وعفوية.. ما أجمل وما أرقّ روحه المؤنسة المستأنسة،بسّاما كان كلما لقيك، بسرعة يمسح عنك، بوجهه الصبوح وقلبه النصوح، أكدارا وهموما تسكنك.. كان يتقن رفع المعنويات وفي المواقف الصعبة بالذات، وهذا فنّ قليلون جدا من يتقنونه.. أما النصائح الثمينة، فبأي أدب؟ وبأي عقل؟ وبأية قدرة على الإقناع كان يهديكها؟..
أما إن سألت عن برّه بوالديه، فهو الأنموذج رحمه الله : قبل صلاة الفجر، وفي أوقات الصلوات كلما كان في البيت، كان يهيئ لوالده الضرير، العالم الجليل الربّاني، سليل الأسرة العريقة في العلم والجهاد والتربية، وقد تجاوز التسعين من عمره، أمر وضوءه، ويأخذ بيده إلى المسجد ويعود به منه.. يجب أن يرى الرائي طريقة إخباته مع أبيه : أدب جمّ، تلقائي، جدّ جميل..
وأما إن سألت عن روح الخدمة لديه، فهو لم يكن من النوع الذي يقول لك : آسف.. هذا ليس باستطاعتي.. سيبذل غاية وسعه ليخدمك. كان رحمه الله خدوما بتواضع، كريما سخيا،إذ لم تكن الدنيا تعني له شيئا، ورغم كونه كان يعمل في مجالات ذات مسؤوليات كبيرة، والتي يغتني عادة منها وفيها آخرون بغير الحلال،لكنه كان مثالا للتعفف، مستعليا بشموخ على الانتهازية والوصولية.
عـلـم شـامــخ
كان مؤسس مدرسة حقيقية في مجالات تخصصه : ليسوا كثيرين أولئك الذين يعرفون -ربما باستثناء طلبته وبعض من أهل الخبرة- أنه عمل لتأسيس وبناء مشروع علمي تجديدي أصيل في علوم العمران أربعة عقود تقريبا، وهذا مشروع يجب ألا يهمل.. فقد خرّج جيلا كاملا من المهندسين العمرانيين من ذوي الكفاءة العالية، زوّدهم برؤية علمية راسخة متميزة بمضامين معرفية ثمينة وغير مسبوقة، فضلا عن بناء سجايا أخلاقية وتربوية في سلوكياتهم، فكان جيلا فريدامن الكفايات التي عمّ نفعها في بلدنا العزيز.. ولعل من أجمل شمائله الأخلاقية العلمية، ذلك السخاء النادر مع طلبته، إذ لم يكن يحسب للوقت حسابا عندما يتعلق الأمر بزكاة العلم والمعرفة والخبرة، فكان يعطيهم، كما يعطي غيرهم، أحسن ما عنده، بروح متحفّزة وثّابة دائما نحو الأفضل والأعمق والأحكم..رضي الله عنه.. وإذا كان قد ظلم من بني وطنه، بل حورب وحوصر ومكر الماكرون ضده، كرها في اتجاهه الفكري والعلمي، لكنه على الصعيد الدولي، كان اسما لمّاعا في المحافل العلمية الدولية في مجالات تخصصه، بل شهدت له كفاي ات علمية راقية جدا في أمريكا وأوروبا بتميّزه في علوم العمران.. لقد كان رائدا تاريخيا في ردّ الاعتبار ببراعة وجدارة منقطعة النظير لفقه وفلسفة العمران، وفقا لأصولها في الوحي والتجربة الحضارية الإسلامية اللاحبة.
جـهـاد بـالـغ
لا أذكر أنني عرفت في حياتي رجلا يفكر ويعمل ويتحرك ويسهر ويتواصل، لخدمة بلده وأمته ودينه، مثل سيدي عبد اللطيف الحجامي عليه رضوان الله تعالى. كيف كان يكتفي من النوم بثلاث أو أربع ساعات في اليوم والليلة ثم يشتغل لعشرين ساعة متواصلة وهو يسابق المواعيد والمحاضرات والاجتماعات والمؤتمرات وورش العمل ومتابعة البحوث..؟ لا أعرف، لكن {ذلك فضل الله يوتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم}.
كانت روحه الرسالية من نوع نادر فعلا،فقد تشرّب عقله، كما تشربت نفسه، بشكل عميق جدا، إحساسا حادّا بالمسؤولية تجاه بلده وأمته وملّته.. فكان جهاده، ومجاهداته لخدمة الوطن والأمة والدين، قويا ومتواصلا ومشحونا بروح معنوية صلبة لا تهين ولا تتراجع مهما كانت التحديات والعوائق، ورغم أنه كان يجرح أحيانا من أعدائه الفكريين، بتجريحات قاسية مؤلمة، لكنني لم أره يوما في حالة انكسار، بل كان “يقلبها” إلى جذل مرح، مهتما برفع معنويات إخوانه وطلبته وأحبابه أكثر من اهتمامه بتضميد جراحاته.. أية نفس أبية كانت بين جوانحه؟!
مـنـاشـدة
يا تلامذة سيدي عبد اللطيف الحجامي.. يا من كان له فضل من الرجل عليه في مقامات العلم والمعرفة والخبرة.. لقد أعطاكم هذا الرجل الفذ عصارة عقله ومهجته، فنفع الله به وبكم.. أنتم تعلمون أن الرجل أسس لمدرسة معاصرة في واحدة من أخطر مجالات البناء الحضاري، وقد رأيتم أسسها وبنيانها وما احتوت عليه من آيات العلم والفكر، العميقة في رؤيتها، البالغة في حجتها، بغوصها في المعاني العقدية والقيمية العليا.. ورأيتم ما اكتنف أفكاره واجتهاداته من قيم مضافة عالية القيمة.. لقد بنى الرجل مدرسته،مع تلامذته ومريديه، وأنفاسه وزفراته، تلهج إلى الله القدير بالإنابة إلى كلماته وآياته وتوجيهات نبيّه عليه الصلاة والسلام وناهلا من معين الرصيد والممارسة الحضارية للأمة، فقها وتجارب غنية، من المغرب والأندلس حتى آسيا الوسطى..
ووفاء للرجل، وحفاظا على تراثه العلمي، ومواصلة من تلاميذه لمشروعه العلمي الراقي، ووفاء لذكراه، بل قبل هذا وذاك امتثالا لتوجيهات سيدنا رسول الله ، بالحفاظ على العلم الذي ينتفع به وتنميته، هلمّوا لتأسيس “مركز عبد اللطيف الحجامي لعلوم العمران” أو شيء من هذا القبيل، يجمع فيه تراث الرجل المتفرق وينشر، ويستأنف تلامذته على أساساته مشروع أستاذهم ترسيخا وتطويرا، ويساهموا به في بناء مستقبل بلدنا العزيز والأمة وعامة الناس رحمة لهم..
سنشهد للرجل بكل ما علمناه آنفا أمام الله تعالى يوم العرض عليه..
رحمك الله رحمة واسعة يا سيدي عبد اللطيف ..
> تلميذك وأخوك،
محمد بن الحبيب الدكالي
الدوحة في 9 صفر 1432
(2011/1/13)
ذ. محمد بن الحبيب الدكالي مدير المشاريع والتعاون الدولي -قطر الخيرية