مصطلح التوجيه، يحمل مفهوما ذا جاذبية كبيرة، وما يمكنه إلا أن يكون كذلك، فهو يحمل في الاصطلاح مفاهيم متقاربة ومتداخلة، ومن بينها:
“التوجيه إرشاد للفرد إلى الطرق المختلفة التي يستطيع عن طريقها اكتشاف واستخدام إمكاناته وقدراته، وتعليمه ما يمكّنه من أن يعيش في أحسن حال ممكن بالنسبة لنفسه ولمجتمعه الذي يعيش فيه”.
وبصورة عامة فإننا جميعا نتحمل تبعات التوجيه التربوي الذي من المفترض أن “يستفيد” منه أبناؤنا في مرحلتين: مرحلة نهاية التعليم الإعدادي، حيث إن التلميذ يختار بين اتجاهين مشهورين: اتجاه أدبي أو اتجاه علمي، فضلا عن التوجيه الاقتصادي أو التقني. ثم بعد ذلك في نهاية السنة الأولى من الثانوي(جذع مشترك) يختار التلميذ بين عدد من التوجهات داخل المسار الأدبي أو المسار العلمي.
ومن الناحية المبدئية والتربوية والأخلاقية يفترض أن يكون الموجه التربوي ومعه الأساتذة عونا للتلميذ لاختيار ما يناسبه من التخصصات حسب مؤهلاته واستعداداته، وتبعا لما يرغب فيه من تكوين يؤهله لكي يكون خادما ناجحا لمجتمعه ووطنه، وقبل ذلك وبعده، يؤهله لبناء مستقبله.
غير أن واقع التوجيه في العديد من مؤسساتنا التعليمية لا يسير وفق هذا المبدأ، فهو إما أن يكون مبتور الفائدة، عديم النفع، لا يزيد على لقاء محدود مع التلاميذ، يخرجون بعده وهم بين حيص بيص، لا يعرفون ماذا يفعلون ولا أين يتوجهون. ومن ثم يبقى كل واحد منهم رهين الإشاعات والتخرصات التي يسمعها من هذا التلميذ أو ذاك، ممن هو في مستواه أو ممن هو فوقه ممن ذاق، هو الآخر، مرارة التوجيه المبني على الإشاعات والمرويات، وليس على أساس تربوي سليم، وقد يتأثر بمن كان ضحية هذا النوع من التوجيه، “لِيفتي” له بما يكون وبالا عليه وعلى مستقبله. وإما أن يكون هذاالتوجيه هادما جملة وتفصيلا عن طريق تزكية المقولات التي لا تخدم مستقبل التلميذ، ولا الوطن بأكمله، حيث إن العديد من التلاميذ يذكرون أنه قيل لهم، في أكثر من سنة، وفي أكثر من مقام، وفي أكثر من مكان: “إذا أردتم المستقبل فعليكم بالرياضيات، لتكون مهندسين، وحتى الطِّب لا تفكروا فيه، ماذا تفعلون بثلاث عشرة سنة دراسة؟ أما الأدب واللغات فهي للفاشلين”.
مضمون هذا الكلام هو الذي يُلاكُ، حتى وإن لم يكن بهذا اللفظ، ومن الأكيد أن كلاما مثل هذا لا ينبغي أن يقال، ولا يجب أن يصدر عن موجه لأنه يمكن أن يؤدي بشريحة كبرى من التلاميذ إلى الاتجاه غير السليم، فتكون العاقبة الانقطاع عن مواصلة الدراسة، بسبب ما يشعر به أنه عجز، ولكنه ليس كذلك بل هو سوء توجيه لا غير.
ومن الواضح أن كلامنا هذا لا ينبغي أن يُعمم، فهناك من الموجهين من يبذل قصارى جهوده في سبيل تقديم النصح للتلاميذ، بتخصيص الوقت الكافي لذلك، وتوضيح ما ينبغي إيضاحه فيما يتعلق بالتوجيه كيفما كان شأنه ومستواه.
غير أن الذي ينبغي أن نقف عنده، هو ما يمكن أن نسميه ب”الرأي العام” المتعلق بالتوجيه المدرسي، ذلك أن هذا الرأي العام يجمع، أو يكاد، على أن التوجيه اللائق والأنسب للتلاميذ، وربما أقول للتلاميذ الذين ينبغي أن يكونوا في المستوى -وفق هذا التصور العام – هو التوجه نحو”العلوم الرياضية” وأما ما دون ذلك فيبقى شذوذا أو ضياعا للوقت أو “لا مستقبل”، وكأن الوجود منذ أن قام، قام على الرياضيات، وكأن الناس منذ أن كانوا وإلى الآن ما أكلوا خبزا إلا بالرياضيات، وكأن التنمية رهينة بأن يكون جميع أبنائنا وبناتنا في تخصص الهندسة.
طبعا أنا لا أقول هذا استخفافا بالرياضيات أو انتقاصا من شأنها، أو إلى ما يمكن أن تؤدي إليه من تكوينات، وأنَّى يكون ذلك وقد كنت عاشقا لها ومتفوقا فيها في المرحلتين الإعدادية والثانوية، وكان من المفروض أن أتوجه إليها وفق منطق التوجيه السليم، فكيف بالتوجيه “المُغرِض”، ولكن مع ذلك آثرت عن رضى واقتناع، أن أتوجه توجها آخر أحقق فيه ذاتي ورغبتي وميولاتي.
كما أني لا أقول هذا طعنا في من كانت ميولاته تتجه نحو التخصص الرياضي، حيث يكون فيها متفوقا ونابغا، ويكون مؤهلا لإتمام مسيرته العلمية التي يحلم بها إلى النهاية.
ولكن أقول هذا في من ليس له اهتمام بالرياضيات أصلا، وليس له طبع فيها ولا تفوق، ومع ذلك يُدفع دفعا إلى التوجه نحو اعتمادها في توجهه، حيث إننا نجد العديد من العائلات والأسر تبذل جهودا مضنية من كدّ وجهد من أجل أن يتوجه أبناؤهم نحو العلوم الرياضية، استجابة ل”الرأي العام” الذي يرى أن الذي لا يتوجه هذه الوجهة يبقى “مسكينا” أو”متخلفا”، فتُبذل أموال وتُهدر جهود من أجل إيجاد ما لا يوجد، وتكوين ما لا يتكون، وتكون العاقبة سيئة بالنسبة لهؤلاء التلاميذ الذين يجدون أنفسهم قد أخطأوا الطريق، لكن بعد فوات الأوان، فلا هم بالرياضيات حصلوا شيئا منها يؤهلهم نحو بناء المستقبل المنشود، ولا هم بتخصص آخر نهلوا منه منهلا يؤهلهم نحو تكوين مناسب لميولاتهم واهتماماتهم. وتكون العاقبة أنا خسرنا شبابا كان بإمكانهم أن يكونوا بُناة لمستقبلهم ووطنهم لو أنهم وُجهوا توجيها سليما.
ما الذي يضير التلميذ الذي ليس له طبع في الرياضيات وله طبع في الآداب أو اللغات أن يتوجه توجها أدبيا أو لغويا.
ما الذي يضير التلميذ الذي له اهتمام بالعلوم الشرعية ومتفوق فيها أن يتوجه هذا الاتجاه؟؟.
لقد مضى حين على الأمة وهي تلوك مقولة “الأدَب مَا يْوَكْلْشْ الخُبْز”، حيث قيلت لي هذه العبارة، وأنا ما زلت في مرحلة التعليم الإعدادي، ولقد نيّفْت اليوم على الخمسين وما زلت أسمع هذه العبارة، وما شابهها من العبارات التي تنتقص من قيمة الدراسات الأدبية والعربية والشرعية.
إن المتتبع لتاريخ الأمم ومساراتها الحضارية والعلمية تتبعا دقيقا سيدرك بكل وضوح أن البناء الحضاري لهذه الأمم لم يتم على أساس تكوين أبنائها تكوينا وحيدا يتيما، بل على العكس من ذلك كانت الشمولية والتكاملية الطابع العام للتكوينات العلمية، وذلك قبل أن يسود ما يعرف بالمنهج والتخطيط للمستقبل، فردا وجماعة. أمَا ونحن في عصر المستقبليات فإن المنطق السليم يقتضي أن نعرف، بعلم، حاجات مستقبلنا، ونراعي، بعلم أيضا، طبائع أبنائنا ورغباتهم، حتى نبني لهم مستقبلا يتم من خلاله أيضا بناء مستقبل الوطن والأمة.
بل يمكن أن نلاحظ أن بناء الحضارات كان ينطلق من بناء الهوية، وبناء الذات، وهو ما لا يتم إلا عن طريق تكوين المواطن تكوينا معرفيا يبدأ بما هو عقدي وإنساني، لينتهي بما هو مادي ومنطقي.
وعلى هذا الأساس فإن التوجيه التربوي قد شُيد في عصرنا هذا بشكل مقلوب، وأن هرم التوجيه ينبغي أن يعدل ليصبح وفق الترتيب التالي :
الاختيار الأول : العلوم الشرعية.
الاختيار الثاني : العلوم الإنسانية والاجتماعية.
الاختيار الثالث : العلوم المادية.
قد يقول قائل : وما لهذا الشخص يريد أن يقلب ما تعارف عليه القوم منذ زمان؟؟ أيريد أن يعيدنا قرونا إلى الوراء؟!
لا ليس الأمر كذلك، بل نريد بناء وطننا وأمتنا، ولقد شهد تاريخ الحضارات قديمها وحديثها، أنه ما بُنيت أمجاد ولا شُيدت حضارات إلا في ظل العقيدة، وتاريخنا المغربي والإسلامي شاهد على ذلك.
إن ما نشاهده من أخطاء في الشأن الديني، من سوء فهم أو غلو فيه وتطرف، أو ازدراء به أو تهميش له، يعود بالدرجة الأولى إلى أن العديد من الذين يخوضون فيه ليسوا مؤهلين لا عقلا ولا شرعا ولا لغة ولا تأهيلا، ومن ثم تحدث الكوارث التي تحدث على امتداد الساحة الإسلامية باسم الدين، ولذلك من الواجب شرعا وعقلا، أن تتوجه فئة متفوقة من التلاميذ نحو دراسة العلوم الشرعية وتُدفع إلى ذلك دفعا وتشجع ماديا ومعنويا، وأن يخصص لخريجيها ما يخصص لخريجي المدارس الهندسية من منح ورواتب، حتى يُعاد للشأن الديني فقها وإفتاء وممارسة واجتهادا مجده الزاهر، وحتى يكون سيرنا على منهاج النبوة، وسطيا لا إفراط فيه ولا تفريط. وصدق الله العظيم إذ يقول: “وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون”. قال ابن عاشور رحمه الله: “ولذلك كانت هذه الآية أصلا في وجوب طلب العلم على طائفة عظيمة من المسلمين وجوبا على الكفاية، أي على المقدار الكافي لتحصيل المقصد من ذلك الإيجاب”
ثم إن ما نشاهده من ضعف لغوي، ليس في العربية فقط، بل في سائر اللغات، يدل على أن الشأن اللغوي ينبغي أن تُوجه له هو الآخر فئة من المتميزين للتخصص فيه، بهدف تكوين علماء لغة قادرين على النهوض بلغتهم؛ إذ لا تقدم لأمة إلا بتقدم لغتها، بجعلها مواكبة للتطورات الحديثة.
وإن ما نشاهده من ضعف معرفي مهول في منظومتنا المعرفية والحضارية، يدل على أنه ينبغي أن يتولى هذا الشأن فئة من المتفوقين، وأن يُتعهدوا بكل ما يلزم من تشجيعات معنوية ومادية.
وعلى أساس هذا المنهاج يمكن أن يحصل التقدم الحضاري المنشود، بترشيد التوجيه نحو العلوم الأخرى، وخاصة الإنسانية منها، إذ أن بناء الحضارة هو بناء للإنسان، ولن يتم بناء للإنسان إلا إذا عرفنا ما يخدم هذا الإنسان وما لا يخدمه.
وأما أن يبقى التوجيه التربوي تبعا للرأي العام السائد في هذا الباب فسنبقى خمسين سنة أخرى، لنجد أنفسنا ما زلنا ندور في نفس الدائرة.
صحيح أن هذا النوع من التوجيه لا يتحمل مسؤوليته “الموجهون”، بل يتقاسم المسؤولية فيه كل من له صلة به، بدءا بالجهات الرسمية، وانتهاء بمن يعاشر التلاميذ،في البيت والمدرسة على حد سواء.
د. عبد الرحيم الرحموني