1- دورهـا فــي بناء شخصية الـفرد الـمـسـلـم :
التقوى أوبالأحرى التربية على التقوى هي التي تبني شخصية الإنسان المسلم بناء قويا متكاملا، إنها التربية التي تحقق الشخصية السوية المتزنة، والفاعلة في الحياة، كما نلمسه في أخلاق الصحابة وهم قدوة المتقين -كما سيأتي- ويهمنا في هذا المقام إبراز معالم أثر التقوى وقيمها في شخصية الإنسان المؤمن، من ذلك مايلي:
- التقوى كما يقول د عثمان نجاتي : “من العوامل الرئيسية في نضوج الشخصية وتكاملها واتزانها، وبلوغ الكمال الإنساني”(1).
- إنها قوة روحية في القلب مستمدة من الارتباط بالله القوي المتين، فهي تحصين ومناعة داخلية ضد الانحراف وليست هروبا من الواقع وما يكتنفه من مغريات ومنزلقات، وبها تصحح العقيدة وتخلص من النفاق ومن رواسب الإرجاء والخرافة، وما أشبه..
- للتقوى دور في تربيةالعقل المؤمن وتحريرفكر ه من اتباع الهوى ومن الاستعباد للمادة أولذوي السلطان والجاه ـ للتقوى أثر كبير في تربية الضمير الحي أوالقلب السليم للفرد المسلم، مما يجعل ضميره حارسا يقظا؛ يحرس صاحبه أن يغفل، ويحرسه ألا يضعف أويحيد عن الطريق المستقيم، وهذه اليقظة والشعور بالمسؤولية أهم وقاية من ظواهر الغش والاختلاس والتهاون في أداء الواجب.
- إجمالا يمكن تلخيص دور التقوى وفعاليتها في حياة الفرد المسلم، في كونها “قيمة عظمى توحد الشخصية الإنسانية بكل نشاطها واتجاهاتها وتجعلها ترقى سلم المجد والعزة، وتسلك سبيل التقدم والازدهار وتحيل الإنسان قوة منتجة بناءة..(2).
وهي أيضا : “بمثابة الطاقة الفذة التي تشعل مصباح الضمير فيظل متألقا متوهِّجا حتى يغيب الإنسان في التراب مادام يشعر في كل عصب وجارحة وخلية أن الله يرقبه وهويمارس هذا العمل أوذاك”(3).
2- دورها في بناء المجتمع القوي :
لفضيلة التقوى وللقيم المتفرعة عنها دور كبير في تمتين العلاقات الاجتماعية وفي تماسك المجتمع وبناء الأمة القوية، بدءا بدورها في استمرار العشرة الزوجية وتمتين العلاقة العائلية، وقيامها على المحبة وعلى العدل والإحسان والتسامح وغيرها، وانتهاء ببناء العلاقات بين الأمم والشعوب على التعارف والتعاون على البر والتقوى، وقد حث الإسلام على قيم الأخوة والتواد، والتراحم والتعاون، وعلى الإنفاق والإحسان للضعفاء، وكلها من أخلاق المتقين..
3- دور قيم التقوى على المستوى الحضاري والكوني :
تكمن أهمية التقوى ؛ الحضارية والكونية، في كونها تحدد للأفراد والجماعات مقاييس السلوك الصائب والعلاقات السليمة في كافة ميادين الحياة مما يجعل الإنسان منسجما مع قوانين الوجود في فكره ومشاعره وسلوكه، ويجعل المجتمع الذي تشيع فيه قيم التقوى مجتمعا متوازنا مع مسيرة التطور في نشاطاته ومساراته، وهذا يستلزم من الإنسان (المتقي) أن يقوم بجميع المسؤوليات على أحسن وجه، ويتقي الاصطدام بالقوانين الإلهية والسنن الكونية التي توجه العلاقات بين الإنسان وخالقه ، وبينه وبين الكون، وبينه وبين أخيه الإنسان، فيتقي الانحراف عن علاقة العبودية مع ربه تعالى ، ويتقي الانحراف عن علاقة التسخير مع الكون، ويتقي الانحراف عن علاقة العدل والإحسان مع أخيه الإنسان(4)..
والتقوى بهذا المنظور الشمولي بمثابة الإطار العام لعمل الإنسان وفق المنهج الرباني الكفيل بتحقيق مهمة الاستخلاف والتعمير في الأرض عبادة وعملا لأنها تستلزم قيما حضارية متفرعة عنها وأهمها :
< العدل :
العدل من الفضائل العليا في الإسلام، وهوقيمة من قيم التقوى التي تتجسد في واقع حياتي محسوس، وهوأقرب إلى التقوى، لأنه قائم على مخالفة هوى النفس ونزوعها لحب الذات وتفضيلها على الغير، والعدل مقصد من مقاصد إرسال الرسل كما جاء في قوله تعالى : {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط…}(الحديد :25).
وهوحق الله ومنته على كل عباده، وفي مجال القيم الحضارية والإنسانية يعتبر العدل أرقى صفات الإنسان المدني المتحضر، إذ فيه تتجلى إنسانيته وترفعه عن الدوافع الشخصية والعصبيات العرقية أوالحزبية، وعن المطامع الذاتية، وحتى عن الخلافات العقدية والمذهبية، لأن العدل مطلوب ولومع الخصوم والأعداء كما جاء في قوله تعالى : {ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لاتعدلوا اعدلوا هوأقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}(المائدة :8).
ويتحقق العدل على المستوى الاجتماعي بإعطاء الحقوق لأهلها ، ولا شك أن استحضار مراقبة الله وخوفه ورجاءه، هي الضمانة الكبرى لحمل النفوس على العدل فالتقوى أساس العدل في الحكم والقضاء وفي توزيع الثروات، وحفظ حقوق اليتامى والضعاف، بل بالعدلتحفظ الضرورات الخمس للإنسان التي بها يتحقق وجوده، وهي، الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعرض، وحفظها من مقومات الاستقرار والأمن الضروريين لعمل الإنسان ولنشاطه وإبداعه، الحضاري ، وبانعدام العدالة الاجتماعية تشيع المظالم والفتن المؤدية إلى الاقتتال والفساد في الأرض، لذلك كان العدل الاجتماعي والاقتصادي أساس قيام العمران الحضاري والازدهار الثقافي، ولا يتحقق في مجتمع المسلمين بغير تقوى الله تعالى .
< التعارف والتواصل الإنساني :
التعارف والتواصل الإنساني ضرورة اجتماعية وحضارية أقرها الإسلام بل دعا إليها ليتحقق التعاون على الخير بين بني البشر، كما يفهم من قوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا قبائل لتعارفوا عن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير}(الحجرات : 13).
فالناس خلقهم الله شعوبا وقبائل لأجل التعارف، لا للتفاخر والتنافر،ولأجل التواصل الإنساني الذي يقرب بين أجناس البشر، ويكون مفتاحا للتعاون وتبادل الخبرات والمنافع بين الناس لاستثمار ما أنعم الله به على الخليقة من خيرات الأرض ومسخرات الكون، وبذلك تتحقق أمانة الاستخلاف في الأرض، وعمارتها على الوجه الذي يرضي الله ويسعد الإنسانية جمعاء.
< الوفاء بالعهود والمواثيق مع جميع الناس :
الوفاء بالعهود والمواثيق من لوازم الصدق والعدل، هوبدوره واجب تجاه الصديق والعدو، مع المؤمن والكافر ، خلافا لليهود الذين لا يوفون بعهودهم، ويرون أن الوفاء مع غير اليهودي لا يلزمهم، بل يقولون : {ليس علينا في الاميين سبيل}، ويرد عليهم القرآن بقوله تعالى : {بلى من اوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين}(آل عمران : 76) الوفاء ملزم لغير اليهودي.
وقد أمر الله المسلمين بالوفاء بالعهد حتى مع المشركين ماداموا على عهدهم ولم يناوئوا المسلمين أويقاتلوهم فقال تعالى : {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين}(التوبة : 4).
وعموما فإن دور التقوى في البناء الحضاري يتجلى في أمرين هامين :
- في كونها الطاقة المحركة للإنسان، للقيام بالمسؤوليات الخاصة والعامة، ولإنجاز العمل الصالح الذي تنتفع به الإنسانية جمعاء.
- وفي كونها حصانة ووقاية للحضارة من الشرور والمفاسد التي تؤدي بها إلى الانهيار والسقوط.
——
1- القرآن وعلم النفس، ط 5 دار الشروق 1993 ، ص :263
2- ذ، محمد إبراهيم الشافعي في مقال (الإحسان في بيان القرآن سبيل إصلاح الأمة( نشر في مجلة ( الأمة( القطرية، ع :29 فبراير 1983 ص :30.
3- البينات في تفسير سورة الحجرات إعداد عبد الحميد البيانوني، طبعة دار نور المكتبات، جدة، السعودية 1999.
4- ماجد عرسان الكيلاني في كتابه ( فلسفة التربية الإسلامية(ط مؤسسة الريان بير وت 16-998 ص : 349. بتصرف.
د. محمد البوزي