يروى أيها السادة أن الله تعالى ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة، ولعل واقعنا اليوم ينطق بهذا المعنى، فإن دول الكفر والضلال اجتهدت -بحسب ما نرى- في إقامة الحد الأدنى من العدل، وجعلت الناس سواسية أمام قوانينها، يستوي في ذلك أغنياؤها وفقراؤها، وحكامها ومحكوموها، فاستقرت بذلك العدل أحوالها، وأمنت شعوبها، وأمسكت بزمام التقدم المادي، وحققت النجاح الدنيوي، بينما دولنا التي آمنت بالله ربا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، أغفلت أمر ربها بإقامة العدل، فانتشر الظلم بين أفرادها، واستشرى البغي بين حكامها، وغاب العدل أو كاد من عقول القائمين على أمر شعوبها، وكان من نتائج ذلك ما نرى من سفك للدماء، وهتك للأعراض، وسرقة للأموال، وترويع للآمنين، … ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم!
كنت أيها السادة أتصفح كتاباً وأنا أفكر في هذه الدماء التي تسيل في كثير من بلاد المسلمين على أيدي بعض حكامهم، بسبب غياب العدل، فوقعت عيني على هذا الموقف من أحد حكام الأمة في الزمن الغابر: فقد ذكروا أن أتابك طغتكين ، سلطان دمشق، طلب له محتسبا، فذُكر له رجل من أهل العلم، فأمر بإحضاره، فلما بصر به قال: إني وليتك أمر الحسبة على الناس بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قال: إن كان الأمر كذلك، فقم عن هذه الطراحة، وارفع هذا المسند، فإنهما حرير واخلع هذا الخاتم فإنه ذهب، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير: “إن هذين حرام على ذكور أمتي، حل لإناثها”.
قال: فنهض السلطان عن طراحته، وأمر برفع مسنده، وخلع الخاتم من أصبعه، وقال: “قد ضممت إليك النظر في أمور الشرطة” فما رأى الناس محتسبا أهيب منه” قرأت هذا الموقف وأنا أستحضر ولاية الحسبة التي عاشت في ظلها الأمة قرونا من الزمن، ومنظر “السيبة” التي تعيش فيه الأمة اليوم، وتساءلت في نفسي: هل من رجال صالحين، وعلماء صادقين، يقومون بأمر الحسبة التي ليست سوى مراقبة وحفظ وحماية للسير العام للأمة في سياستها واقتصادها و… من خطر الزيغ عن العدل، والحياد عن الحق؟
ذ. امحمد العمراوي من علماء القرويين