منزلة الإنابة، من ألطف المنازل وأرفعها وأجملها عند الله عز وجل، إنها منزلة ذات لُطف كأنها ذات خفاء لدقة معناها ورِفعة شجاها ونورية بهاها الذي جعله الله سبحانه وتعالى لها، إذ يدخلها العبدُ ويتذوق روحَها ويتذوق معناها، فلا يستطيع بعد ذلك أن يفارقها حتى يلقى الله عز وجل.
ما معنى الإنابة وما علاقتها بالتوبة؟
قال الله عز وجل {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ} (غافر: 13)، فالإنابة مِن أَنَاب يُنيبُ، أي رجع يَرجِع، أناب فلانٌ إلى المنزل، رجع بعد خروج أو بعد سفر فهو منيب أي راجع، ولذلك فلها علاقة بالأَوْبَة وبالتوبة، {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّاب} (ص: 30)، الأَوْبَة أي العودة والتوبة، إلا أن بينها وبين التوبة عُموماً وخُصُوصا، فالإنابة نوع من أنواع التوبة وليست هي إياها على الإطلاق، لأن التوبة قد تكون من ذنب، وقد تكون لأول مرة، وقد تكون بطيئة، وقد تكون سريعة،…
فالتائب مُعتذِرٌ إلى ربه عن ذنبه، التائب مؤمن أو مسلم اعتذر لربه عن ذنبه، وأقلع عنه، وبدأ حياة جديدة، هذا هو التائب على العموم ، أما الإِنَابَةُ فهي أخصُّ من ذلك، الإنابة رجوعٌ إلى الله عز وجل، فيه صفتان؛
الصفة الأولى : السرعة، يعني يُسرِع في العودة، ولا بُطء في الإنابة، ثم فيها أيضا محبَّة وشوق وحياء، فالمؤمن حينما يَذْكُر أنه شرد عن الله قليلاً، (شَرَد أي بعُد عن الله)، في موطن من المواطن أو فعل من الأفعال، فإنه يتذكر حُبَّه لله وحبّ الله له، فيشعر حينئذ بالخجل حياء مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت))(صحيح البخاري)، فالعبد إذ يحب ربه ويجد نفسه قد شرُد عنه قليلا، يستحيي من فعله ومن شروده فيعود إليه، حينئذ يُحسُّ بشوق شديد يدفعه إلى موطنه الذي كان فيه فيكون منيباً، لأنه لما قلنا في اللغة “مُنيب” هي راجع، لكن إذا جاء إنسان للمسجد لأول مرة في حياته، لا يقال له رجع، لأنه لم يكن هنا، بل جاء الآن فقط ويقال رجع للذي كان هنا وخرج وعاد، فالمُنيب يكون في الأصل عابداً لله مُحبّاً له قريباً منه، ثم يزِلُّ أو يشرُد أو يَفتُرُ في سيره وَيضْعُفُ عن عبادته، ثم يتذكر أحواله الخضراء السابقة التي كانت بينه وبين ربه، يتذكر هذه الأحوال ويشتاق إليها ويأسف، يتأسّف لأنه ضيع ذلك الجمال الذي كان عنده مع الله عز وجل في العبادة.
الإنابة فعل الصالحين، داود \ نموذجاً
ولذلك قال أحد الصالحين مُتأسِّفاً على أيام كان يعبد الله فيها بجمال فقال “وا أسفاه على أيام البداية” أو قال “وا شوقاه إلى أيام البداية”، يقصد بداية أيام عبادته، لأن العادة أن الإنسان حينما يبدأ العبادة يبدأها بشوق وبِلهَف وبمحبة، ويُـكثر منها، لأنه كان محروما منها قبل، فيجد لذة وراحة، ثم بعد ذلك قد يُصاب بفتور فيجد نفسه بعدما فترت مشتاقا إلى إحياء تلك الليالي التعبدية وإحياء تلك الأيام التي كانت أيام صلاح وتقوى وفلاح، فحينما يعود مرة أخرى إلى ربه يعود ليذوق ما يعرفه، لا ليذوق ما يجهله، راجع يحمله الشوق لشيء سبق أن تذوقه، وأكثر الشوق صدقا، هو ذلك الشوق الذي يأتيك لشيء سبق تذوقه في الأمور العامّة، أمور الطعام والشراب وأمور النِّعم وأمور العبادات أيضاً، فتسمى هذه إنابة، ولذلك إنما يوصف بالإنابة عِباد الله الصالحين، وعلى رأسهم الأنبياء {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} (هود: 75)، أوَّاه، قال العلماء في التفاسير : “كثير التأوه”، والتأوه يعني عبارة “آه” يتأسف، فكان يأسى على ما عليه أمر الناس من كُفر وضلال، حليم، يعني يعطف على الناس، ويرأف عليهم، ويتأسف على ضلال الناس، فكان يحمل همّ الناس بشكل كبير، حليم أوَّاه منيب كثير العَوْد والأوب إلى الله ليجدد الذوق والجمال الذي كان يجده في طاعة الله عز وجل، وكذلك وصف الله عز وجل عبده داوود {وَاذْكُر عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الايْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ. إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالعَشِيّ وَالاشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} (ص: 17- 19)، هذه الصيغة ذكرتها من الآية لوصف الحال التي كان عليها دَاوُد عليه السلام، {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الايْدِ}( ص: 17) “الأيد” جمع يَد، وهي كناية في العربية عن القوة، فكان داود عليه السلام قوياً، قوياً بتقوية الله له طبعا بالمعنَيَين، قوي في العبادة، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم : ((خير الصيام صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما))، وكان أيضا يقوم نصف الليل، فكانت له قوة في العبادة، ما شاء الله، ثم أيضا كان قوي البِنيَة، لأنه كان حَدَّاداً، {وَأَلَنَّا لَهُ الحدِيد}(سبأ: 10)، وكان يصنع دروع، المقاتلين في الزمن السابق، فكانت له قوَّتان؛ قوة بدنية، وقوة معنوية، وسخَّر الله له الجبال {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ} (ص: 18) وهذه حقيقة وليست مجازاً، فداود عليه السلام كان يُسبِّح ربَّه بالعشي والإشراق، بالآصال، الآصال جمع أصيل، وهي اللحظة التي تبرد فيها الشمس بين العصر والمغرب، الوقت الذي يسميه العامَّة : “نص عاصر التالي”، الوقت ما بين العصر إلى المغرب قسموه إلى اثنين، النصف الأول يكون ساخنا، والنصف الثاني تكون الشمس فيه ذهبية باردة، ذاك هو الأصيل، في ذلك الوقت كان داود يجلس للتسبيح والتهليل والذكر، وأيضا بالإشراق مع شروق الشمس وبُعيد الشروق، بالغدو والآصال، بالعَشي والإشراق، وفي هذه اللحظات بالخصوص الله عزّ وجلّ سخّر الجبال تعيد تسبيحته، {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً}، تُجمع الطيور عنده، تأتيه من كل فجٍّ عميق وتجلس بين يديه تذكر الله بذكره، وتردد ذِكرَه الجبال كذلك بأمر الله، كما قال في القرآن الكريم في آية أخرى {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} (سبأ: 10)، الله عز وجل أعطى الأمر للجبال وللطيور أن تُؤَوِّب، تُؤوِّب يعني : تَذكُر اللهَ عز وجل بمعاني الأَوْبَة، يعني أن الإنسان المشتاق يرجع لله عز وجل، للصلاح والفلاح، فكانت الجبال وكانت الطيور في منظر عجيب، وهذه من معجزات داود عليه السلام الذي كان أَوَّاباً، من معجزاته اللطيفة العجيبة، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام استُفتِيَ في قضية من القضايا، معروفة {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} (ص: 23) الآية، فأفتى فيها بما أفتى، ثم تذكَّر أن هذه فتنة، وأنه اختبار من الله عز وجل له، فظن أنه أخطأ في طريقة الحُكم، قال بعض المفسرين : هو أفتى دون أن يستمع للآخر، لأن القاضي يسمع من الاثنين، والشاهد عندنا هو إحساس داود عليه السلام، {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} (ص: 24)، فاستغفر ربه، خطر بباله وظنَّ أن ما وقع له فتنة، وأنه أذنب وضاعت منه حاله الجميلة التي كانت عنده قبل من تسبيح تُسبِّح به الجبال والطير، وخاف من ضياع مكانته ومن الحال المُشرِق من الجمال التعبدي، فأسرع -هذا الدليل على الإسراع- مشى يجري بتوبة مسرعة، باستغفار مسرع يملأه الشوق إلى حاله ويملأه الخوف أن يضيع منه ما كان له، {فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب}، التعبير القرآني الرباني عجيب، {فخرَّ}، في هذا السياق وليس في غيره، في هذا السياق تدل على كمال الخضوع لله عز وجل، “خَرَّ البناء أو خَرَّ السقف من القواعد، يعني تهدم بكليته”، فإذن ركوع داود وخضوعه كأنه بناء قد تهدم، فيه سرعة وفيه شوق شديد، {فَخَرَّ راكعاً وأناب}، هذه هي الإنابة، فهي فعل الصالحين الذين ذاقوا طعم الإيمان قبل، الذين ذاقوا حلاوة الصلاح والفلاح والتقوى قبل، والذي سبق له أن ذاق يكون فعلاً فيه شوق يرجع.
الإنابة خاتمة الجمال وتاج الكمال
الذي ذاق الحلاوة يرجع إليها بسرعة، فهؤلاء ذاقوا حلاوة أخرى، ليست حلاوة أرضية، بل حلاوة روحانية ربانية كمالية نورانية، ولذلك فلا يجد المؤمن نفسه إلا راغبا في الإنابة إلى الله عز وجل {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} (ص: 25)، الله عز وجل غفر له ذلك الذي ظنه في نفسه، {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} (ص: 25)، “الزُّلْفَى” الجنّة الرفيعة العالية، و”حسن المآب” الخيرات التي تنتظره في الآخرة، ولذلك قال عز وجل في الزُّلْفى وفي الإنابة نفسها في سياق آخر في سورة ق {وَأُزْلِفَتِ الجنَةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} (ق: 31)، “أُزْلِفَتْ” هُيِّئَتْ بجمالها وكمالها هَدِيَّة وعطيَّة من رب العالمين، {وَأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ. هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ} (ق: 31- 32)، “أوَّاب” يرجع {حَفِيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب}، الإنابة : خاتمة الجمال، وتاج الكمال في عبادة الله عز وجل، الإنابة : شيء جميل جدا وعجيب جدا أنَّ الإنسان يسلك إلى ربه بقلب منيب، فتوبته ليست كأي توبة، ليست تلك التوبة البطيئة، اليوم، غدا، بعد غد، أو يأتي العبادة أو الذكر بكسل، بل هي توبة يملأها الفرح، ويملأها الشوق، ويملأها الأسى والأسف على ما ضاع منه من جمال العبادة التي كانت له، يتأسف على اللحظات التي ضيّع فيها ذلك القُرْب من الله عز وجل، فعودته هي عودة المشتاق، عودة الذي ذاق ما ذاق قبل، فيعود إلى ما يعرف لا إلى ما لا يعرف، وهذا هو العارف بالله حقيقة، العِرفان بالله والمعرفة بالله هي هذه، معرفة الأنبياء والمرسلين والصالحين والصديقين من هذه الأُمَّة، فهذا الجمال العجيب الذي في الإنابة يحتاج المؤمن إلى تعلمه لتثبيت سيره إلى الله عز وجل لأنه من أضمن وسائل التثبيت، التي تجعلك دائماً في طريق الله تعالى تتعلم كيف تُنيبُ إلى ربك، كيف تكتسب قلباً منيبا، حتى تلتحق بالصالحين، حتى يكون فيك وصف من أوصاف الأنبياء والصديقين، كما وصف الله إبراهيم وداود عليهما السلام وغيرهما من النبيئين والصديقين، وهي منزلة متاحة لكل الناس، الأنبياء هم في أعلى درجاتها، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أول المُنيبين طبعاً وسيدهم، ما في ذلك شك، ولكن الله سبحانه وتعالى الرحمن الرحيم بهذه الأمة أعطاها إمكانات وجمالات وكمالات ممكنة لكل من تصدُقُ نيته في قلبه ويجتهد لنوال ذلك،{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ اوْ الْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37)، قبل هذا إنما تَحدَّثَ الله عز وجل عن الإنابة {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ. وَالارْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} (ق: 6- 7) هذا خِطاب عامّ وعجيب، {لكل عبد}، كلّ شيء مشروط، وهذا دال على أنها منزلة متاحة للناس أجمعين، {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ}، فالمؤمن منيب {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ} (غافر: 13).
—————
(ü) منزلة الإنابة من حلقات منازل الإيمان التي ألقيت بمسجد الجامع الأعظم بمكناس وهي مادة مسجلة على شريط سمعي .
أعدها للنشر : عبد الحميد الرازي
د. فريد الأنصاري رحمه الله تعالى