يشهد العالم العربي والإسلامي في الآونة الأخيرة موجة من التغييرات لم تشهدها المنطقة في تاريخها، على الأقل بهذا الحجم وبهذه الوتيرة والسرعة المذهلة ومن جهة مصدرها (الشعوب المقهورة)، ولم يكن لها من نظير قريب من هذا المستوى سوى التغييرات التي شهدتها دول المعسكر الشرقي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وما تبعه من انهيار جدار برلين وانتفاضات شعوب أوروبا الشرقية عقب ذلك.
والتغييرات المتلاحقة في دول العالم العربي التي اندلعت شرارتها الأولى في تونس الخضراء وأدت إلى السقوط المفاجئ لرأس النظام التونسي الموروث عن المرحلة الاستعمارية وبعض رموزه، ثم انتقلت عدواها إلى مصر فأودت، كذلك بسرعة كبيرة، بسقوط النظام الحاكم باعتباره أكبر حليف للغرب وإسرائيل في المنطقة.
وعقب نجاح الثورتين التونسية والمصرية انتقلت شرارة العدوى إلى دول عربية كثيرة أهمها -لحد كتابة هذا المقال- ليبيا واليمن والبحرين وإيران والأردن والجزائر إذ بدأت تشهد احتجاجات باختلاف في الحجم والتقدم والتعقيد وأخطرها دموية وشراسة في قمع المحتجين هو نظام القذافي الذي شرع يلفظ أنفاسه الأخيرة وأصبح قاب قوسين أو أدنى من السقوط.
وهذا الحراك الاجتماعي والشعبي الذي خرج من قمقمه كالسيل الهادر يجرف معه، من غير إنذار سابق، كل الأنظمة التي قامت على الاستبداد والبطش والفتك بكل مخالف وأحاطت كراسيها بجيش من العملاء والأمن السري المدرب على الفساد والإفساد الفتك والافتراس!!
ولم تكن مطالب هذه الثورات سوى مباشرة الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بما يحقق للمواطن الكرامة والحرية والعدل والحق في العمل والمشاركة في الحياة السياسية والتخلص من شعارات الديمقراطية الزائفة التي قامت على إدامة الاستبداد وشرعنته، وتكريس التبعية المقنعة وتسويغها.
إن هذه التغييرات الحاصلة والمنتظر حصولها سواء من قبل الحراك الاجتماعي أو من قبل بعض الدول التي وعت جيدا طبيعة المرحلة وانتهجت سياسة إصلاحية استباقية ووقائية(المغرب نموذج لذلك)، كل ذلك ستكون له تأثيراته الواضحة على المنطقة العربية محليا وإقليميا ودوليا، سواء تحققت هذه المطالب الإصلاحية على وجهها المطلوب أم تمت قرصنتها واختطافها من جديد، وهنا يمكن بيان ذلك كما يلي:
> أولا في حال نجاح المطالب الإصلاحية الجديدة: فإن المنطقة العربية والإسلامية ستشهد تحولات عميقة محليا وإقليميا ودوليا:
فعلى المستوى المحلي ينتظر أن تؤدي هذه الثورات التغييرية والإصلاحية إلى إحداث تغييرات سياسية تؤمن الحياة السياسية من العنف المسلح والعنف المشروع والاستبداد وستفتح الباب واسعا للحريات العامة التي يمكن أن تستفيد منها المشاريع الإسلامية التي ظلت محاصرة طيلة عهود الاستبداد السياسي للأنظمة، والتي ظل أصحابها مخيرين بين التطبيع أو التعذيب أو الموت: {إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذن ابدا}(الكهف: 20) !!، كما ستمكن هذه الإصلاحات من انتعاش اقتصادي وانطلاق مشاريع التنمية الحقيقية إذا وجدت حكومات تحسن تدبير الشأن العام، وتحافظ على المال العام وتحسن استثماره وتنميته، كما ستسهم في تحطيم جدران الخوف وتعزيز إحساس المواطن بالحرية والكرامة والإبداع.
كما أسهمت هذه التغييرات في رفع مستوى اهتمام المواطن بالشأن السياسي ومتابعة الأحداث وتداولها وهذا من شأنه أن يسهم في رفع مستوى الوعي بالممارسة السياسية والحقوق، وفي إيجاد شريحة اجتماعية واسعة تملك وعيا سياسيا وحقوقيا كافيا في تأمين الانتقال نحو الإصلاحات المنشودة.
وعلى المستوى الإقليمي يمكن أن تطرأ تغييرات على موازين القوى الإقليمية إذا أفرزت الديمقراطيات حكومات وطنية قادرة على تعزيز الأمن القومي وتحقيق التوازن الإقليمي، ويؤكد هذا ما رأيناه من ترحيب من الدول والمنظمات الإقليمية ( تركيا وإيران وحماس وحزب الله…) في مقابل تخوف دول إقليمية ودولية (إسرائيل والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودوله..). واستباق إلى متابعة الأحداث واستصدار بيانات وتصريحات وخطب زعماء تعبر عن تخوفها من أن يسفر التغير في المنطقة عن صعود قوى سياسية غير مرغوب فيها (خاصة حركات الإسلام السياسي التي تصنفها إسرائيل ضمن الحركات الإرهابية التي تلتقي مبدئيا مع خط دول الممانعة مما سيشدد الطوق والحصار على الكيان الصهيوني)، ولهذا وبعد تنحي حسني مبارك وتسلم الجيش السلطة الانتقالية بادر إلى إصدار بيان يؤكد فيه احترام مصر لالتزاماتها وتعهداتها الدولية في إشارة ضمنية إلى معاهدة السلام مع إسرائيل، وغيرها من المعاهدات السياسية والاقتصادية.
وعلى المستوى الدولي: أبدت الدول الغربية اهتماما متزايدا للتغيرات غير المنتظرة في المنطقة والتي أسقطت أكبر نظام حليف للغرب عموما وللولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل خصوصا، وتابعنا التصريحات والتعليقات والتحذيرات والاجتماعات المتلاحقة في ثورة الياسمين أو ثورة الشباب المصري، واليوم نلاحظ نفس الاهتمام أيضا في الأحداث الدموية الجارية في ليبيا واليمن والبحرين وإيران.
مما يعني أن صناع القرار الدولي منشغلون أشد الانشغال بالتغيرات في المنطقة، ويحاولون توجيهها بالقدر الذي لا يجعل الكرة تنفلت وتسير في الاتجاه غير المرغوب فيه.
كما أن نجاح الثورات العربية لا يمكن حصر عدواه في المحيط العربي الإسلامي بل يمكن أن تصبح نموذجا يغري الشباب في الغرب وفي كثير من دول العالم متقدمه ومتخلفه بتقليده ومحاكاته لأنه أثبت نجاعته السريعة وفعاليتة القوية في التخلص من الأنظمة الحاكمة والتعجيل بتحقيق مطالب الجماهير بالشكل الذي تريد. وتعتبر الصين من الدول التي أصبحت مهددة بعدوى الثورات العربية ، ويمكن أن تسري العدوى إلى أي بلد أوروبي ومنها الولايات المتحدة نفسها خاصة في ظل استمرار الأزمة المالية والفساد وتوفر جو الحرية والديمقراطية.
> ثانيا في حال فشل هذه الثورات في تحقيق مطالبها إما بسبب التلكؤ وعدم الإسراع في وتيرة هذه الإصلاحات أو بسبب قرصنة الثورة والإجهاز على مكتسباتها فيحتمل أن يكون لذلك انعكاسات خطيرة منها:
- إدامة حالة الاستبداد المحلي والدولي في المنطقة مما يمكن أن ينذر بانفجارات شعبية واسعة وغير محسوبة العواقب، تساهم في انتشار حركات التطرف والعنف المسلح يقود المنطقة إلى البلقنة والصوملة، لا تهدد الأمن والاستقرار الداخلي و حسب وإنما يمكن أن تهدد الأمن الإقليمي في المنطقة برمتها، ويمكن أن يضر بمصالح الدول الكبرى فيالمنطقة، وحينها سيزداد الوضع تعقيدا ويصعب التحكم في مجريات الأمور، وتفوت الفرصة على أبناء الأمة في الوحدة الوطنية وبناء تكتلات إقليمية وفق ما يحقق مصالح الأمة العربية والإسلامية، ووفق ما تقتضيه تحديات مرحلة ما بعد انهيار القطبية الأحادية للولايات المتحدة التي أصبحت تبدو ملامحها في القرن الحالي.
- إمكان أن يؤدي ذلك إلى تسريع التدخل الأجنبي في المنطقة وتعزيز الوجود العسكري للدول الكبار في المنطقة، وتعزيز قوة الكيان الصهيوني، وضياع الحق الفلسطيني في الأرض والدولة والعودة ـ لا قدر الله ـ ، إلى جانب إضعاف الدول العربية بمزيد من التقسيم، ونهب الخيرات والثروات وإثارة النعرات الانفصالية والحروب الأهلية.
وفي الختام لابد من التوكيد على وجوب الانتقال الفعلي للإصلاحات والخروج بسلام من هذه المخاضات الصعبة التي تتطلب وعيا دقيقا بالمرحلة وفقها بالواقع في شموليته وفي مختلفتقاطعاته وما يتطلبه ذلك من القدرة على بناء استراتيجيات آمنة للتغيير المنشود، واتخاذ تدابير عملية قوية وفعالة تؤمن هذا الانتقال. فالمنطقة العربية الإسلامية لم تعد تحتمل مزيدا من الضغظ والاستبداد والقهر والتبعية، ومن مصلحة الغرب نفسه الآن أن يعيد بناء علاقاته مع دول المنطقة وفق منطق التحالف الاستراتيجي القائم على الشراكة العادلة والتبادل المشترك ومراعاة مصالح الجميع بندية وتساو.
د. الطيب الوزاني