ثالثا: استخلاف آدم عليه السلام
قد دل ما سبق من الكلام عن خلق آدم وتسويته وتكريمه، على أنه مخلوق لشأن عظيم. وهذا واضح جدا في ذكره بوصف الخليفة في قول الله تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الارْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(البقرة 30). وهاهنا عِبَرٌ:
- أنه عبَّرَ بلفظ “الجعل” في استخلاف آدم. ولمَـاَّ كانت “حقيقة الجَعْل فِعْل الشيء على صفةٍ”؛ فإنه يفهم من خلق آدم أنه خلق خلقا خاصا يؤهله هو ومن تناسل منه للاستخلاف.
- أنه عبر بصيغة اسم الفاعل الدال على الزمن المستقبل ليفيد تأكيد الجعل ونفاذه. وقد كان هذا القول من الله عز وجل للملائكة قبل خلق آدم أو عند خلقه، فيفهم منه أن ما سيأتي من الأمور التي بعد ذلك مندرج في سياق الحكمة الإلهية الكامنة وراء خلق الكون وخلق الإنسان.
وأما الخليفة فواضح أن المقصود به آدم وذريته، وأما الخلافة فالظاهر أن معناها “تكليف الإنسان بإعمار الأرض التي سُخِّرت له بما أعطاه الله تعالى من القُوى والمدارك والوسائل، وإصلاحها وإقامة الحياة فيها وفق الهدى النازل منه عز وحل”.
والابتلاء بـ”الخلافة” بَيِّنٌ من جهة تقاطعها مع “الأمانة”، قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الامَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الانسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}(الأحزاب : 72) وقال الله تعالى {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الارْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}(الأنعام : 165). وقال الله عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}(الملك : 2).
- ومن العبر الجليلة أن الله تعالى ذكر الملائكة شاهدة على هذا الإبداع في الخلق والجعل، وقد صِيغَ هذا الشهودُ في محاورة عجيبة مَهِيبَةٍ بين الله تعالى وهذه المخلوقات الكريمة، وآدمُ لا يَدري، ثم استُأنِفت المحاورة وصار آدمُ طرفا فيها، فكان من شأنه ما كان، لينجلي أمام كل أولئك علم الله العظيم الذي شمل كل شيء وأحاط بكل شيء {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} و{قَالَ الَمْ اقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}.
حتى إذا هبط آدم إلى الأرض كان مستكمِلا لسائر الأدوات التي تمكِّنه من تحقيق الخلافة. وسنحاول رصد ما يتصل بالخلافة من خلال ما يلي:
ساحة الاستخلاف:
قال الله تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الارْضِ خَلِيفَةً}(البقرة 30)، وهو يعني أن الأرض أُعِدَّت سَلَفا لاستقبال آدم، وقد جاءت هذه الآية مباشرة بعد قوله تعالى {هوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الارْضِ جَمِيعًا..}(البقرة 29). وهي عظيمة الدلالة بقوله: “لكم” وبقوله: “جميعا” على إعداد الأرض بما فيها وما عليها لمصلحة الإنسان ومنفعته. {قُلْ ائِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الارْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ}(فصلت : 9- 10).
ولابد هنا أن نستحضر مفهوم التسخيرالذي ينبه على أنه يتجاوز الأرض إلى ما يبادلها التأثر والتأثير كما في قوله تعالى : {ألَمْ تَرَوْا انَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً..}(لقمان 20).
وقد فصل القرآن الكريم كثيرا في تسخير الأرض وإعدادها من أجل الإنسان بما لا يتسع المجال لذكره.
ومن ثمرات هذه الحقيقة أن يُعْلَم أن الإنسان قد كُفي همَّ الموارد التي يقوم بها جانبه الطيني المعاشي، تنبيها له على أن سعيه ينبغي أن يتجه إلى استكمال جانبه الروحي وتنميته والمحافظة على أصله الطيب الكريم. {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}(الروم 30).
الاستخلاف ابتلاء:
سبقت الإشارة إلى ذلك. وهاهنا مزيد بيان، قال الله تعالى: {قلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْارْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ الَى حِينٍ}(البقرة 36) ثم قال بعدها: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا ياتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(البقرة : 38- 39).
في هذه الآيات مما له صلة بالاستخلاف ما يلي:
1- حصر زمن الاستخلاف، وأنه مستقَرٌّ في الأرض ومتاع إلى حين. فهي مرحلة محدودة لابد أن تنتهي ليكون بعدها الرجوع إلى الله تعالى. قال الله عز وجل قبل قصة آدم: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}(البقرة 28).
وقال سبحانه{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}(الأنبياء 35).
2- أن الله تعالى أبقى للإنسان الصلة به سبحانه من جهتين: الأولى هي ما أودعه عز وجل في نفس الإنسان من الروح التي تتطلع بفطرتها إلى الغيب، لأن طبيعتها من عالم الأمر: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ امْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (85)، والجهة الثانية هي ما يرسله سبحانه بين فترة وأخرى من الهدى بواسطة الملائكة والرسل عليهم الصلاة والسلام. {فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى}. وقد عُبِّر بلفظ الإتيان هنا وبألفاظ أخرى كالمجيء والتنزيل والإرسال ليدل على القصد الإلهي في هداية الإنسان والاعتناء به، حتى لا تتيه به السبل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(الأنعام 153).
3- موضوع الاستخلاف:
وهو باختصار مجاهدة الهوى التي تميل إليه النفس ويغذيه الشيطان بالوسوسة. ولذلك قال الإمام الشاطبي: “المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا”. وبيانُه في ما يلي: قال الله تعالى {قلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}(البقرة 36)
قال سيد قطب: “كان هذا إيذانا بانطلاق المعركة في مجالها المقدر لها بين الشيطان والإنسان إلى آخر الزمان”. وذكر ابن عاشور في تفسيره أن مما يحتمل في الآية أن يكون الخطاب فيها لذرية آدم بسبب ما أودع فيهم من “إيثار النفس بالخير وسوء الظن بالغير وهو منبع العداوات كلها؛ لأن الواحد لا يعادي الآخر إلا لاعتقاد مزاحمة في منفعة أو لسوء ظن به في مضرة”. وقد ظهر هذا واضحا في أوائل الذرية في قصة ابني آدم حيث قتل أحدهم أخاه.
والذي يظهر أن الآية تحتمل الأمرين؛ لأن مما هو مقرر أن الإنسان يواجه عدوين: عدو داخلي وهو هوى النفس، وعدو خارجي وهو وسوسة الشيطان.
أخرج الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه
قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِشَيْءٍ أَقُولُهُ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ قَالَ قُلْ اللَّهُمَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ قَالَ قُلْهُ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ”. قَالَ الترمذي هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
عداوة الشيطان: قال الله تعالى {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ اصْحَابِ السَّعِيرِ}(6). فعداوة الشيطان ثابتة لا يتصور زوالها، وقد حدد وظيفته منذ البداية بقوله: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ ايْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}(الأعراف 16- 17).
وخلاصة عمل الشيطان أنه يستثمر جوانب الضعف في نفس الإنسان بالوسوسة.
وأما عداوة النفس: فإنما يصح وصفها بذلك بالنظر إلى ما فيها من الاستعداد للاستجابة لداعي الهوى، وقد جعل الله تعالى في الإنسان جوهرا شريفا هو المخاطَب بالتكليف باعتباره قادرا على تطويع النفس قال الله تعالى {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ افْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (الشمس : 7- 10).
فإن جاهدها الإنسان وتعهدها بالتربية فإنها ترتقي في المدارج حتى تصير مطمئنة سعيدة بما هي فيه من الهدى. {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(العنكبوت 69) {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}(النازعات : 40- 41) وإن أهملها استأسدت عليه وعميت فغطت عقله ولوثت روحه ورمت به في التيه: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}(ص 26).
عُدّة الخلافة:
لقد جاء على لسان الملائكة الكرام عليهم السلام -قبل بيان الله لهم- ما يدل على أنهم لم يروا هذا المخلوق أهلا للاستخلاف، وبغض النظر عن السبب الدافع لهم إلى ذلك الرأي، فإن ما جاء من كلام الله عز وجل بعد ذلك دال على أن الله تعالى رشح الإنسان لذلك الاستخلاف بناء على حكمته العظمى وعلمه المحيط، وتجلى بعضُ ذلك في قوله: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الاسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ اقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}(البقرة : 31- 33).
وفيما وجوه من العُدَّة التي أوتيها الإنسان للقدرة على الخلافة:
1- تعليم آدم عليه السلام بالبيان والتجربة:
- التعليم بالبيان: وهو محض تفضل من الله تعالى على الإنسان، فهو سبحانه الذي علَّمَه: {وعلم آدم الاسماء..}، {الرحمن علَّم القرآن، خلق الانسانَ علَّمه البيان}، {اقرأ بسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق، اقرأ وربك الاكرم الذي علَّم بالقلم علَّم الانسان ما لم يعلم}. {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالابْصَارَ وَالافْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(النحل : 78).
فهذه الآيات وغيرها تدل على:
- أن آدم عُلِّم العلم الذي لُخِّص له فيه العالَمُ، فكان رصيدا عظيما له ولذريته تستثمره وتضيف إليه بواسطة القُوَى والمدارك والوسائل التي وهبه الله إياها.
- أن الإنسان أُعطِيَ القدرة على البيان الذي به يتحقق التواصل وتبادل المعارف والعلوم ونقلها وتوريثها.
- أن هذا العلم الذي أوتيه الإنسان ينبغي أن يكون دافعا إلى الشكر؛ لأن به تتحقق منافع الإنسان في الدنيا والآخرة، ولذلك كان الوحي -الذي نُزِّل إليه تباعا عبر العصور- كلُّه من العلم، لأن في الوجود من الحقائق المتصلة بالإنسان وما يحيط به ما لا يمكن الوصول إليه إلا بعلم الوحي.
- التعليم بالتجربة: وتجلى ذلك في أمور منها:
- تجربة الأمر بالسجود، حيث سارع إليه الملائكة، واستكبر عنه إبليس، وقد تبين كبير جرمه في حق الله تعالى أولاً، ثم في حق آدم. ولذلك نبه الله عز وجل آدم مستعملا أداة الإشارة في قوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنَّةِ فَتَشْقَى}(طه : 117).
- تجربة المخالفة بالأكل من الشجرة وما ترتب عنها: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}(طه 120- 121).
وقد نبَّه الله تعالى ذرية آدم للاستفادة من هذه التجربة المُرّة التي مر بها أبوهم فقال: {يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُومِنُونَ}(الأعراف : 27).
ومعنى هذا أن استخلاف الإنسان قد أحيط بقدر عظيم من التوجيه والبيان.
ومن العِبَر في هذا المقام:
- أن آدم عليه السلام قد شهد مشهد الأمر الإلهي بالسجود فسجد الملائكة وأبى إبليس، لتستقر في نفس آدم منذ الوهلة الأولى حقيقة الأمر الإلهي وموقفُ المخلوق منه، وأنه ينبغي أن يكون موقف التسليم والامتثال. وإلا فإنه سيترتب عليه الوبال والخسران، كما وقع لإبليس حيث طرد من رحمة الله عز وجل.
ثم جاء نهي آدم عن الأكل من الشجرة، وذكر ما ترتب عن عدم الانتهاء من الخروج من الجنة. فكان هذا أيضا درسا لآدم في نفسه، بعد الدرس الأول في نفس إبليس.
- ومما له صلة بالتسليم أن الملائكة لم تنتظر حتى تستفسر عن هذا السجود للمخلوق، وهل هو أهل له أم لا، بل اكتفت بالنظر إلى الآمر به سبحانه وتعالى. ومعنى ذلك أن ما ينبغي البحث فيه عند تداول أوامر الشريعة هو تبيُّن حقيقة الأمر والتيقُّن من مصدره، فإذا تأكد فلا مناص من التسليم والامتثال.
2- القدرة على الاختيار وتحمل المسؤولية:
قال الله تعالى {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ انْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْلَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْارْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}(البقرة 22- 24).
إن هذا النص الكريم يضعنا أمام حقيقة المسؤولية، وأن الإنسان يتحمل تبعات أفعاله، وهو شرط في سير الحياة سيرا طبيعيا. بخلاف من يلقي بتلك المسؤولية على الآخرين ويجتهد في تبرئة نفسه. لقد كان إقرار آدم وزوجه بظلمهما لأنفسهما شعورا بأن اختيارهما الأكل من الشجرة وقع في غفلة من تقدير مخاطر ذلك الاختيار.
3- إمكان التوبة من أجل تصحيح الأخطاء:
وهو أيضا محض تفضل من الله عز وجل؛ لأنه سبحانه شرع للإنسان التوبة. وقد سبق التنبيه على أن طبيعة خلق الإنسان تدل على استعداده للطاعة والمعصية، وأنه تتجاذبه قوتان: قوة الطين إلى الأسفل وقوة الروح إلى الأعلى.
قال الله تعالى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ انْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(الأعراف : 22- 23).
وقال الله عز وجل: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}(البقرة : 37).
وهذا بخلاف الشيطان الذي فطر على التمرد والشر، فإنه بقي مصرا على معصيته مستكبرا عن التوبة والإنابة. فكان عاقبته الطرد من رحمة الله تعالى واللعنة إلى يوم الدين.
وهكذا نستفيد أن التوبة خلُقٌ كريم دافِعٌ إلى التجديد باعثٌ للأمل، دالٌّ على مجاهدة النفس من أجل إصلاح الأخطاء واستدراك ما فات، مُنْبِئٌ عن الشعور بالافتقار الدائم إلى الله تعالى والتذلل بين يديه عز وجل.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
د. مصطفى فوضيل