3 دقائق: الـمجمـوع الــزمني العام لتأخر القطــارات على مـدى سنة كــاملة فــي الـيـابــان.
8 دقائق: المعدل السنوي للقراءة عند الفرد العربي.
75دقيقة: تأخر القطار في إحدى الرحلات بالمغرب.
مصدر المعلومة بالنسبة للرقمين الأول والثاني وسائل الإعلام، ففي برنامج للمنوعات الإخبارية لإحدى الإذاعات العربية ساقت الخبر الأول على أنه طريف ونادر، كان ذلك منذ بضعة أسابيع فقط. بينما ساقت المعلومة الثانية قناة فضائية عربية شهيرة منذ بضع سنوات، اعتمادا على ما أصدرته هيئة تابعة للأمم المتحدة. وأما المعلومة الثالثة فقد عاشها كاتب هذه السطور في يوم من أيام ماي من السنة الماضية في رحلة للقطار ما بين مراكش وفاس.
هذه الأرقام منبئة عن أحوالها ودلالاتها بنفسها، ويمكن أن تقدم باعتبارها أخبارا ومعلومات، ويكتب بجانبها عبارة “دون تعليق”.
لكننا لن نترك هذه الأرقام دون تعليق، حتى ولو كان تعليقا بسيطا؛ فحينما نقرأ الرقم الأول “3 دقائق”، يبدو لنا وكأنه حلم أو سراب يستحيل الوصول إليه، إذ كيف يمكن في دولة تعج بالمواصلات وتتداخل فيها المصالح وتتقاطع، وتدب بالحركة ليل نهار، ومع ذلك لا تزيد فيها نسبة تأخر القطارات بأجمعها وعلى مستوى الشبكة كلها، لا تزيد عن ثلاث دقائق في السنة.
إنه رقم يدل على تقدم حضاري وصناعي مذهل، تقدم قائم على خدمة الإنسان وتقدير كرامته وعدم إهدار وقته وإمكاناته، تقدم قائم على ترشيد النفقات وحسن توظيف إمكانات الدولة، والصدق في المعاملة، وعدم الغش في العمل، والابتعاد عن الرشوة، وغير ذلك من القيم الحضارية التي تبني المجتمعات وتسير بها نحو الأمام. ولقد أبان البرنامج التلفزيوني الذي قدمه الإعلامي السعودي أحمد الشقيري بعنوان “خواطر” خلال شهر رمضان المبارك من السنة الماضية، حيث قدم من خلاله مقارنات طريفة بين وقائع ومشاهد وسلوكات في اليابان وبين مثيلاتها في عدد من البلدان العربية، حيث أبانت هذه المقارنات عن مفارقات رهيبة في كل شيء. ولعل المقارنة هنا بين ثلاث دقائق من التأخر في رحلات السنة بأكملها وخمس وسبعين دقيقة في رحلة وحيدة ينبئ عن فارق جسيم وخطير، فلو جمعنا جميع التأخرات التي هي من حجم خمس وسبعين دقيقة، وحتى التأخرات البسيطة التي هي من حجم عشر دقائق مثلا، والتي لا تعتبر تأخرا عندنا وخاصة في محطة الوصول، لوجدنا أن الحصيلة السنوية ثقيلة جدا تعد بالأسابيع، وليس بالدقائق… هذا ونحن أمة قامت حضارتها على تقدير الوقت، بل إن شعائرها التعبدية تقوم على التدقيق الدقيق للوقت، فلا صلاة بلا وقت، ولا صوم بدون وقت، ولا إفطار بدون وقت، ولا حج بدون وقت، وهكذا… بل حتى ثقافتنا الشعبية من طرف ونكت كلها تقدر الوقت وتحترمه وتسخر من مُضيّعيه ومُتلفيه.
أما القراءة فهو الرقم الآخر المخزي، ثمان دقائق معدل القراءة السنوي عند الفرد العربي، بمثقفيه ومدرسيه وطلابه وتلامذته وعماله وفلاحيه. ثمان دقائق قراءة سنوية لكل ما يقرأ، في المؤسسة التعليمية وخارجها لكل ما يُقرأ من كتب ومجلات وصحف ومنشورات وغير ذلك… ثمان دقائق قراءة للفرد الواحد في أمة تؤمن بكتاب أول ما أُنزل فيه أمر “اقرأ”!!!
تمر بالمؤسسات التعليمية على اختلاف مستوياتها التي يفترض أن تكون هي المحضن الطبيعي للقراءة، فلا أحد نجده يقرأ، لا أحد يفتح كتابا أو دفترا خارج قاعة الدرس، لا في ساحة المؤسسة ولا بجانب جدرانها، بل حتى داخل قاعة الدرس، تجد العديد من التلاميذ والطلاب من يشغل ذهنه بغير القراءة، وخاصة في التخصصات الأدبية، بل إنه عوض القراءة هناك أحاديث ومسامرات بين الجنسين تحكي بطولات الخيال ومغامرات الأوهام، وتتحدث عن مأساة القراءة ومساوئ عواقبها، نعم هكذا وبصريح العبارة. أما أن تجد شخصا يقرأ في القطار أو الحافلة أو الحديقة أو المقهى فأمر يعتبر من قبيل الأحلام، ربما يُستثنى من هذا بعض من يمسك جريدة هنا وهناك، “يقتل وقته” بتتبع الأخبار السياسية والوقوف عند أحداث الجرائم التي تحدث هنا وهناك. وفي المقابل، نجد في ديار الغرب الكل يقرأ، ويقرأ كل شيء، حتى إنه من النادر أن تجد من لا يقرأ شيئا، وكأن شعارهم قول العقاد رحمه الله: “يقول لك الناس اقرأ ما ينفعك، وأنا أقول لك انتفع مما تقرأ”.
هذه أرقامنا وأحوالنا نعرفها ونعترف بها ونطمئن إليها، وإن كنا نستنكرها في صمت. فمتى يأتي أوان تغييرها ليتحقق فينا أننا أمة “اقرأ”، وأمة النظام والوقت؟!!
د. عبد الرحيم بلحاج