ورد ذكر آدم عليه السلام في القرآن الكريم، في عدة مواضع. وقد عُبِّر عنه في مواضع باسمه “آدم”، وكُنّي عنه بألفاظ أخرى كالبشر والإنسان في مواضع أخرى.
وفيما يلي تفصيل أخباره وما يستفاد منها انطلاقا مما ورد عنه في كتاب الله عز وجل:
أولا: خلقُ آدم عليه السلام:
1- خلقه من تراب: وعُبِّرَ عن مادة الخلق مرة بالتراب ومرة بالطين ومرة بالصلصال ومرة بالحمأ المسنون.
قال الله تعالى : {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (آل عمران 59).
وقال تعالى: { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمُ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ انْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ …}(فاطر 11).
وقال عز وجل: {وَمِن آيَاتِهِ أَنْخَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ}(الروم 20)
وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(غافر 67).
وقال الله تعالى {…إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ}(ص 71).
وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ…}(الأنعام 2).
وقال الله عز وجل حكاية عن إبليس: {قَالَ آسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا}(الإسراء 61).
وقال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}(الحجر 28).
قال تعالى: {خَلَقَ الانْسَانَ مِنْصَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}(الرحمن:14).
العــبــــر:
1- التنبيه على قدرة الله تعالى وجلاله وجماله وكماله:
يستفاد ذلك من ذكر لفظ الآيات في قوله عز وجل: {وَمِن آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ}(الروم 20) ومن مظاهر تجلي الآيات هنا:
أ- خلق إنسان حيٍّ متحرك سامع ناظر ناطق عاقل…، من تراب أي من مادة جامدة هينة. وقد جعل بذلك خلقا خاصا متميزا عن غيره من المخلوقات قبله، سواء من حيث طبيعته أو صورته أو وظيفته. وهذا وغيره يدل على القدرة الخلاّقة لله عز وجل كما قال تعالى {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِتُرْجَعُونَ}(يس : 83).
وإن الإنسان اليوم وهو ينظر إلى نفسه بمنظار العلوم والتقنيات ليقف أمام نفسه مندهشا من هذا الخلق العجيب، ويكتشف فيه -وهو الجرم الصغير- أكوانا وعوالم فسيحة غامضة مهولة. ومن عجيب ما قرأت “أن مجموع طول الشرايين الدموية يبلغ 120 ألف كم (أي يبلغ هذا الطول ما يكفي للدوران حول محيط الكرة الأرضية ثلاث مرات)، بينما يبلغ مجموع طول الأعصاب عندي 780.000 كم، وهذا الطول يبلغ ضعف المسافة بين الأرض والقمر. و000.400 كم من هذا الطول هو مجموع طول الأعصاب المنتشرة في أجزاء الجسم. أما الباقي (أي 000.368 كم) فهو مجموع الأعصاب العائدة إلى المركز العصبي. ويقرب عدد المعلومات الواصلة من خلية واحدة مائتي ألف معلومة. وهذا يعني أن مئات الآلاف بل الملايين من المعلومات تمر من داخل خليتي من المركز إلى المحيط، ومن المحيط إلى المركز. وأنا أملك ثلاثين مليار خلية؛ عشرة مليارات منها في محيط القشرة، وعشرة مليارات تقريبا منها في قشرة المخيخ، أما الباقي فيشكل أجزائي الأخرى. ومن أجل الإيضاح أقول: يملك دماغ البعوض مائة ألف خلية، ودماغ الفأر عشرة ملايين خلية. ولكي يتم تبادل المعلومات بين خلاياي البالغة ثلاثين مليار خلية هناك نقاط اشتباكات عصبية يبلغ عددها مائة تريليون نقطة. أما عدد المخابرات والاتصالات التي يمكن لهذه الاشتباكات العصبية إجراؤها مع بعضها البعض فيزيد على عدد ذرات الكون”. (الجهاز العصبي يتكلم/ د. عرفان يلماز/ مجلة حراء العدد 16). وما نقلته هنا ما هو إلا جزء قليل من عجائب الخلق في الإنسان.
ب- جعله بهيئة دافعة إلى التناسل الذاتي والتكاثر المستمر إلى أن تقوم الساعة… كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء}(النساء : 1) وقال تعالى {وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}(الأنعام : 98).
2- التنبيه على اعتناء الله تعالى بخلق آدم:
وذلك واضح في إسناد الفعل إليه عز وجل بأنه سوَّاه وصوَّره: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ….}(ص : 71)
وفي قوله جل جلاله: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ …}(طه : : 12).
ثم إنه جل جلاله -فوق كل ذلك- نفخ فيه من روحه: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}(ص 71) وإنه لتشريف وأي تشريف!!
ثم انْتَبِهْ إلى عبارة {خلقت بيدي} في قوله عز وجل: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}(ص : 68-76). يقول سيد قطب: “ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي؟ واللّه خالق كل شيء. فلابد أن تكون هناك خصوصية في خلق هذا الإنسان تستحق هذا التنويه. هي خصوصية العناية الربانية بهذا الكائن وإيداعه نفخة من روح اللّه دلالة على هذه العناية”. (الظلال)
3- تقرير أن الإنسان -بسبب طبيعته المكونة من قبضة الطين ونفخة الروح- تتنازعه قوتان: قوة جاذبة له إلى الأرض وما ينبت فيها وينتج عنها من المواد اللامعة اللاهية، وقوة جاذبة له إلى الأعلى.
وعلى المدافعة بين هاتين القوتين قام الابتلاء للإنسان {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها}. ومما يدخل في الابتلاء أن الشيطان منذ البداية رفع لواء الدعوة إلى طين الأرض والخلود إليها؛ لما يعلم من أن بقاء الإنسان داخل هذا الحد، هو تكبيل له عن الانعتاق إلى الآفاق. وهذا بخلاف الأنبياء فإنهم رفعوا لواء الروح: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} ونبهوا الإنسان على أن مما يعينهم على التحرر من جاذبية الأرض الاعتصام بحبل الله النازل من السماء: {واعتصموا بحبل الله جميعا…}، {إليه يصعد الكلم الطيب}، {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}. وروى مسلم عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ قَالَ: “إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً”.
4- التنبيه على أن أصل الإنسان ينبغي أن يكون دافعا له إلى التواضع لله عز وجل:
وذلك واضح في التعبير عن مادة الخلق وأوصافها بألفاظ لا يسع الإنسان معها إلا التواضع: “التراب، الصلصال، الحمأ، المسنون..” يقول الشيخ ابن عاشور في تفسيره: “الصلصال: الطين الذي يترك حتى ييبس فإذا يبس فهو صلصال وهو شبه الفخار؛ إلا أن الفخار هو ما يبس بالطبخ بالنار… والحمأ: الطين إذا اسودّ وكرهت رائحته. وقوله: {حَمَأٍ} صفة لـ {صَلْصَالٍ}. و{مَسْنُونٍ} صفة لـ {حَمَأٍ} أو لـ {صَلْصَالٍ}. وإذا كان الصلصال من الحمأ فصفة أحدهما صفة للآخر. والمسنون: الذي طالت مدة مكثه”.
فهذا من حيث الأصل، وأما من حيث المصير فقد قال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}(طه : 55) ولذلك قال الرجل في سورة الكهف لصاحبه وهو يحاوره: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً}(الكهف : 37)، مع أنه كان يكفيه تذكيره بخلقه من نطفة، لكنه تجاوزه إلى أصله الأول زيادة في التنبيه على ما يستوجب الشكر والتواضع لله عز وجل.
ومن شأن كل هذا أن يجعل الإنسان العاقل -وهو ينظر خلفه فلا يرى إلا التراب وينظر أمامه فلا يرى إلا التراب- أن يبحث عن شيء يرتفع به عن سطوة هذا التراب؛ والحق أنه ليس له إلا ملجأ واحد هو السجود على هذا التراب، لرب التراب، فإنه السبيل الوحيد إلى المعراج والارتفاع والارتقاء، {فاسجد واقترب} وأخرج مسلم عن أبي هريرة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “…وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ”.
> د. مصطفى فوضيل