قبل الحديث عن هذه الأسس، وقبلها الحديث عن ظروف الهجرة وملابساتها، والحالة المزرية التي عاشها المسلمون بمكة المكرمة.
علينا أن نذكر بادئ ذي بدء أن الله سبحانه وتعالى ما شرع هذه الهجرة وأذن بها إلا ليعبد المسلمون ربهم بأمان، ويقيموا كيان دولة إسلامية قوية لنشر دينه القويم، وأن الأخذ بالأسباب، وأخذ جميع الاحتياطات تشريعا للأمة، لا يتنافى مع التوكل على الله والاعتماد عليه. وقد ارتأيت بعد هذه المقدمة المقتضبة، أن أقسم هذه المداخلة إلى قسمين، أحدهما للحديث عما قبل الهجرة، وثانيهما عما بعد هذه الهجرة المباركة فأقول وبالله التوفيق.
1- الحالة المزرية للمسلمين بمكة قبيل الهجرة :
ظل القرشيون يسخرون من رسول اللهصلى الله عليه وسلم وأتباعه، ويحتقرونهم، ويستهزئون منهم ويكذبونهم، ويشوهون تعاليمالإسلام ويعارضون القرآن بأساطير الأولين… بل سلكت قريش ضد المسلمين كل أساليب الإرهاب والحصار والمضايقة وسياسة التجويع والمقاطعة.. وأذاقتهم كل الويلات وشنت عليهم حربا نفسية مضنية، وعندما هاجر بعض المومنين صادرت قريش أرضهم وديارهم وأموالهم وحالت بينهم وبين أزواجهم وذرياتهم، بل بلغ بها الحد أن تآمرت على صاحب الدعوة للقضاء عليه، وما كان ذلك كله ليصده عن مبدئه أو يمنعه من الاستمرار في تبليغ رسالة ربه.
2- الهجرة إلى المدينة المنورة وملابساتها :
لما شعر المشركون بتفاقم الخطر الذي كان يهدد كيانهم، صاروا يبحثون عن أنجع الوسائل لدفع هذا الخطر الذي مبعثه الوحيد هو حامل لواء دعوة الإسلام محمدصلى الله عليه وسلم. وعندما تم اتخاذ القرار الغاشم بقتل الرسولصلى الله عليه وسلم نزل إليه جبريل عليه السلام بوحي من ربه تبارك وتعالى فأخبره بمؤامرة قريش، وأن الله قد أذن له في الخروج، وحدد له وقت الهجرة. وفور ذلك أخبر أبا بكر وأبْرَمَ معه خطة الهجرة. قال ابن إسحاق : “فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى نام فيثبون عليه”. ولكن الله غالب على أمره، بيده ملكوت السماوات والأرض، فقد فعل ما خاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد : {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} فأنجى الله رسوله وصاحبَه وأفشل خطة الأعداء الذين جن جنونهم حينما تأكد لديهم إفلاتُ الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد ضرب علي كرم الله وجهه، ولطم خد أسماء بنت أبي بكر من طرف أبي جهل، قررت قريش إعطاء مكافأة ضخمة، قدرها مائة ناقة بدل كل من رسول الله وصاحبه لمن يعيدهما إلى قريش حيين أو ميتين، كائنا من كان… وكانت المحاولات الجادة الكثيرة.
وفي يوم الاثنين 8 ربيع الأول سنة 14 من النبوة نزل الرسول بقباء وأقام بها أربعة أيام، وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة.
وبعد الجمعة دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ومن ذلك اليوم سميت بلدة يثرب بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. وكان يوما تاريخيا أكثر، فقد كانت البيوت والسكك ترتج بأصوات التحميد والتقديس، وكانت بنات الأنصار تتغنى بالأبيات الشهيرة فرحا وسرورا بقدوم خاتم الأنبياء والمرسلين.
3- بناؤه صلى الله عليه وسلم
الأسس الأولى للمجتمع الإسلامي :
لقد كانت هجرة رسول اللهصلى الله عليه وسلم إلى المدينة، تعني نشأة أول دار إسلامية إذ ذاك على وجه الأرض، وقد كان ذلك إيذانا بظهور الدولة الاسلامية بإشراف منشئها الأول محمدصلى الله عليه وسلم، ولذا فقد كان أول عمل قام به صلى الله عليه وسلم أن أقام الأسس الهامة المتمثلة في هذه الأعمال الثلاثة :
> الأساس الأول بناء المسجد ودوره في الإسلام :
بمجردوصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة واستقراره فيها عزم على إقامة مجتمع إسلامي راسخ متماسك يتألف من الأنصار والمهاجرين الذين جمعتهم المدينة، فكان أول خطوة قام بها في سبيل هذا الأمر بناء المسجد.
ذلك أن المسجد هو بيت الله وأقدس الأمكنة وأطهرها، إذا كان قد أعد في الأصل للصلاة والعبادة، فدوره في إصلاح المجتمع أصيل خطير لأنه المؤسسة الإسلامية الأولى التي ارتبطت ارتباطا وثيقا بالحياة الاجتماعية عند المسلمين، ولأنه المؤسسة الكبرى المخصصة للعبادة والتعليم والقضاء، وهو أيضا جهاز الدعوة الأكبر، ومصدر العلم والهداية والوعظ والإرشاد والتبليغ والتوجيه وكل أعمال الإصلاح الاجتماعي عبر تاريخ الإسلام الطويل.
لقد ظلت وظيفة المسجد هي العبادة والتعليم والمدارسة، ومقر القيادة والرياسة طول مدة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، وكذلك كان الشأن في خلافة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، واتسعت دائرة العلوم التي تدرس في المسجد بعدهم حتى شملت كل المعارف الإنسانية، إذ كان المسجد موضوعا لأمر جماعة المسلمين وكل ما كان من الأعمال التي تجمع منفعة الدين وأهله.
ينبغي أن ندرك أنه بغير المسجد لا يمكن للفرد أن يتربى روحيا وإيمانيا وخُلقيا واجتماعيا، وبغير المسجد لا يسمع الفرد صوت النداء العلوي (الله أكبر) يجلجل في سماء الدنيا فيهز المشاعر ويحرك أوتار القلوب. وبغير المسجد لا يتعلم المسلم أحكام الدين وتنظيم الدنيا، وأمور الحلال والحرام، ومناهج الحياة ودقائق الشرع وبغير المسجد لا يتلقن المسلم القرآن الكريم، ولا يعرف أسباب النزول، ويفهم لطائف التفسير، وبغير المسجد لا يمكن للمسلم أن يتعاطف مع أخيه المسلم، وأن تتفاعل نفساهما على أسس المحبة والرحمة والتعاون والتكافل.
إن المسجد في الاسلام من أهم الدعائم التي قام عليها تكوين الفردالمسلم، وبناء المجتمع المسلم في جميع العصور عبر التاريخ الطويل.
ولا يزال المسجد من أقوى الأركان الأساسية في تكوين الفرد والجماعة وتكوين المجتمع المسلم الراقي في حاضر المسلمين، وسيبقى كذلك في مستقبلهم إن شاء الله تعالى.
> الأساس الثاني المؤاخاة بين المسلمين عامة والمهاجرين والأنصار خاصة :
فالأخوة هي من الأمور التي بدأ بها صلى الله عليه وسلم إذ وطد صلة الأمة بعضها ببعض، فأقامها صلى الله عليه وسلم على الإخاء الكامل، الإخاء الذي ينتقي ويتحرك الفرد فيه بروح الجماعة ومصلحتها وآمالها فلا يرى لنفسه كيانا دونها ولا امتداداً إلا فيها.
وقد أعطت هذه المؤاخاة نتيجتها بأن أذابت عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام، وأسقطت فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتأخر أحد ولا يتقدم أحد إلا بمروءته وتقواه… وكان صلى الله عليه وسلم الأخ الأكبر لهذه الجماعة المومنة لم يتميز عنهمبلقب إعظام خاص، لأن محمداصلى الله عليه وسلم كان إنسانا تجمع فيه ما تفرق في عالم الإنسان كله من أمجاد ومواهب وخيرات. فكان صورة لأعلى قمة من الكمال، وقد ظلت عقود الإخاء مقدمة على حقوق القرابة في توارث التركات إلى موقعة بدر حيث نزل قوله تعالى : {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله. إن الله بكل شيء عليم} فألغي التوارث بعقد الأخوة ورجع إلى ذوي الرحم.
ومما يمكن أن يستنتجه المرء من هذه المؤاخاة، هو يقينه صلى الله عليه وسلم أن أي دولة لا يمكن أن تنهض وتقوم إلا على أساس من وحدة الأمة وتساندها، ولا يمكن لكل من الوحدة والتساند أن يتم بغير عامل التآخي والمحبة المتبادلة. فكل جماعة لا تؤلف بينها آصرة المودة والتآخي الحقيقية، لا يمكن أن تتحد حول مبدإ ما. وما لم يكن الاتحاد حقيقة قائمة في الأمة أو الجماعة فلا يمكن أن تتألف فيها أمة.
وهكذا يبدو أن حس الإخاء والتضامن، وحس التكافل وحس الجسد الواحد، وحس الأمة الواحدة، وحس المصير المشترك هو الذي بنى مجد الإسلام وحقق انتصاراته وسيادته، وهو القادر اليوم وفي أي زمن على بعث أمجاد الإسلام، وتحقيق النصر والعزة والكرامة للمسلمين إذا أعدناه إلى مكانه في قلوبنا، وفي عقولنا، وفي مشاعرنا وأعمالنا.
> الأساس الثالث : الوثيقة التي حددت نظام حياة المسلمين فيما بينهم وأوضحت علاقتهم مع غيرهم بصورة عامة واليهود بصورة خاصة.
عندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وجد بها يهودا توطنوا ومشركين مستقرين، فلم يتجه فكره إلى رسم سياسة للإبعاد أو المصادرة والخصام، بل قبل عن طيب خاطر وجود هؤلاء وأولئك وعرض عليهم معاهدة تقضي أن لهم دينهم وله دينه، وأن المسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة، وقد نطقت هذه الوثيقة برغبة المسلمين في التعاون الخالص مع يهود المدينة لنشر السكينة في ربوعها، والضرب على أيدي المعادين ومدبري الفتن أيا كان دينهم، وقد نصت هذه المعاهدة بوضوح على أن حرية الدين مكفولة، فليس هناك أدنى تفكير في محاربة طائفة أو إكراه مستضعف، واتفق المسلمون واليهود على الدفاع عن يثرب إذا هاجمها عدو، كما جاءت حرية الخروج من المدينة لمن يبتغي تركها والقعود فيها لمن يحفظ حرمتها.
ولقد كان بالإمكان أن تؤتي هذه المسألة العادلة ثمارها فيما بين المسلمين واليهود، لو لم تتغلب على اليهود طبيعتهم من حب للمكر والغدر والخديعة، فما هي إلا فترة وجيزة حتى ضاقوا ذرعا بما تضمنته بنود هذه الوثيقة التي التزموا بها فخرجوا على الرسولصلى الله عليه وسلم والمسلمين بألوان من الغدر والخيانة مما كان سببا في عدة غزوات…
وشاءت إرادة الله بعد الهجرة إلى المدينة المنورة أن يشع من هذا المجتمع الجديد، نور الإسلام ليضيء جميع بقاع الأرض شرقها وغربها. فكانت الهجرة في الحقيقة النواة الأولى لتأسيس الأمة الإسلامية وكانت المدينة المنورة أولى عواصم الإسلام، منها انطلقت جحافل المسلمين تنشر دين الله ورحمته في كل مكان من هذا المعمور.
> د. عبد الحق ابن المجدوب الحسني
❤❤❤❤❤❤❤❤
شكرا لكم على العلومات عن النبي محمد صلى الله عليه السلام