بيوت والأحياء العشوائية المنتشرة في غالبية عواصم العالم ومدنه.. كيف وجدت ابتداء، وغدت -من ثم- (أزمة) سكانية واجتماعية وبيئية وأمنية؟.. و؟.. و؟.. سبب ذلك هو “غياب؛”التخطيط السكاني والمدني.. وبالغوص إلى غور الغور نجد أن علة غياب التخطيط مسبوقة بعلة أعمق وأعتى وهي “علة فقدان الرؤية الاستراتيجية بعيدة المدى” في هذا المجال.. هذا مثل أو ظاهرة يمكن عمها على كل أو معظم ما تعانيه البشرية من اضطرابات وحروب وشقوة وكرب وتعاسة.
ومن وجوب احترام عقل القارئ ووعيه: أن نضرب له مزيدا من الأمثال، أو نستحضر معه “أجزاء” الظاهرة: التي اطردت في الزمان والمكان:
1- فالحربان العالميتان: الأولى والثانية مسببتان – موضوعيا – في انعدام “الرؤية الاستراتيجية” البعيدة المدى.. وقد يقال: كيف تقوم حروبطاحنة بلا رؤية استراتيجية؟.. والجواب هو: أن السياسة هي التي تقود الحروب في معظم الأحوال. وقد يكون التخطيط -أو التكتيك العسكري – جيدا من حيث التقنية والتدريب، ولكنه محكوم بسياسة غبية أو قصيرة النظر مما يمكن أن يوصف بـ”لاستراتيجية العمشاء أو العوراء”.. والمثل التالي كفيل بإشباع الإقناع.
2- لدى الغرب – أميركا وأوروبا – قوة عسكرية غير مسبوقة في التاريخ البشري.. ولقد سخرت هذه القوة الضاربة في احتلال أفغانستان والعراق.. فهل جرى ذلك من خلال “رؤية استراتيجية صحيحة ومجدية”؟
الجواب يمثل في “شهادة” صاعقة مزلزلة.. وفي رصد نتائج هذا الاحتلال ومآلاته:
أ) أما الشهادة فهي أن لجنة برلمانية بريطانية مختصة في مجلس العموم قررت ما يلي: “إن حربي العراق وأفغانستان دليل قاطع على غياب التفكير الاستراتيجي”!
ب) وأما النتائج والمآلات فليس هناك عاقل ذو ضمير -عربي أو غربي- يستطيع أنيقول: إنها نتائج ومآلات رائعة، أو متوسطة الجودة، أو غير “قبيحة”، ذلك أن النتائج والمآلات الواقعية تهزم مثل هذا القول -بافتراض أنه صدر عن عاقل ذي ضمير- فهناك النتائج الاقتصادية المدمرة، حيث إن مفكرين أميركيين وثقوا “الإهدار المالي” – الأميركي فحسب- في هاتين الحربين، فبلغ الإهدار 7 تريليونات دولار، وهو نزف مالي سفيه كان سببا جوهريا في الأزمة المالية التي ضربت الولايات المتحدة، وضربت العالم كله بالتبعية.. وهناك النتائج الأخلاقية والحضارية الكارثية، حيث سقطت المصداقية الأخلاقية، وتشوهت الصورة بسبب شن حرب على العراق على أساس “كذبة” سافرة فاجرة، وبسبب أنه قد ثبت أن هناك عشرات الألوف من الوثائق المصورة التي تثبت أن الجنود الغربيين قد انتهكوا – على نطاق واسع – حقوق الإنسان – بمنهجية لئيمة – في كل من العراق وأفغانستان.. وهناك فقدان الثقة بقدرة الغرب – وأميركا بالذات- على التفكير الاستراتيجي المبدع “والمفيد للذات وللعالم الإنساني”.. وهناك مآلات الفشل والخيبة “فعد هذا المشوار الطويل والتكاليف المرهقة”. فعلى سبيل المثال: لم يعد العراق في قبضة أميركا، ولا تحت سيطرتها – حسب السيناريو المرسوم – وها هي أفغانستان تتأهب لعودة طالبان إلى الحكم، أو على الأقل لتكون شريكا قويا في الحكم!
3- ازدحم الكوكب بشعارات ومصطلحات وميزانيات مكافحة الإرهاب، فكيف كانت النتيجة؟ لقد ازدادت رقعة الإرهاب اتساعا، وازدادت عمليات الإرهابيين كما، وتعقدت نوعا.. لماذا؟ لأنه في ظل غياب استراتيجية صحيحة ومتماسكة وبعيدة النظر لمكافحة هذا الوباء: حدث الانحراف الكبير بالحرب على الإرهاب، وهو انحراف مسبب باندساس أجندات آيديولوجية وسياسية في أجندة الحرب على الإرهاب: كأجندات اليمين الأميركي المتطرف، والأجندة الصهيونية.. يضم إلى ذلك غموض التعريف للإرهاب، والإحجامالغبي -أو الخبي – عن التعرف على أسبابه الحقيقية “مع أن البدهية العلمية تقول: إن تشخيص أسباب المرض مقدمة ضرورية لعلاجه”. ما علة ذلك كله؟ علته فقدان الرؤية الاستراتيجية السديدة علميا، والصادقة أخلاقيا، والطويلة المدى زمنيا.
4- وراء الأزمة المالية والاقتصادية الراهنة “عقم استراتيجي” في التفكير والقرار والعمل.. فبعد سقوط الاتحاد السوفياتي – الخصم القوي المنافس للرأسمالية: استرخت الرأسمالية، ومنحت ضميرها مزيدا من الإجازة والاستهتار، وانبنى على ذلك: توحش في ممارساتها، وتراجع ظاهر عن نقد ذاتها -الذي كانت تنافس به النقد الشيوعي له – هذا السبب -مع أسباب أخرى عديدة- أدى إلى تراكم الأخطاء التي انفجرت في صورة الأزمة المالية والاقتصادية التي ضربت العالم ولا تزال تضربه.. وبعد وقوع الأزمة، هل وجدت رؤية استراتيجية سليمة لمواجهتها ومعالجتها؟.. نعم. هناك محاولات ما للمعالجة،بيد أنها معالجات اكتنفها ما يفسدها، مثل شعار: أن الرأسمالية قادرة على إصلاح ذاتها!! وأن إعادة هيكلة البنوك أو تدوير رأس المال، أو التدخل الحكومي “اللطيف” وسائل ناجعة للخروج من الأزمة، ولكنها محاولات وإن كانت تتضمن مقادير من الصواب، فإنها لا تتم في إطار تفكير استراتيجي مبدع وخلاق يعالج الأزمة في جذورها وفي مسيرها ومصيرها علاجا يحمي البشرية من صراعات مريرة على المعايش الضرورية، كما يحميها من “ظهور ما هو أسوأ من الشيوعية” التي جاءت – أصلا – للرد على أزمات الرأسمالية الأوروبية الفاسدة المفسدة (كما صورها هربرت فيشر في كتابه المهم: “تاريخ أوروبا في العصر الحديث”).
5- يعكف حلف الأطلسي على بناء “استراتيجية”لمستقبله العسكري في العالم.. ويحتدم النقاش بين أطرافه على نقطتين مركزيتين: الأولى: حصر وظيفة الحلف في الدفاع عن أوروبا – حسب نظامه الأصلي. والنقطة الأخرى هي: توسيع وظيفته ليشمل العالم كله. وهذه هي وجهة نظر أميركا بوجه خاص.. ويلحظ أن المناقشات بدت وكأنها معزولة عن “الوضع المالي والاقتصادي لكل من أميركا وأوروبا”.. فتوسيع مهمات الحلف وجعلها عالمية يتطلب إنفاقا ماليا مضاعفا. فمن أين التمويل الباهظ في حقبة ارتفعت فيها مديونية أميركا إلى أكثر من 11 تريليون دولار، وفي وقت تعاني فيه أوروبا من ديون مرهقة حملت دولا أوروبية عديدة على خفض نفقات دفاعها بمعدل مذهل (بريطانيا)؟.. فهل من المعقول أن تنفق بريطانيا على “الأطلسي” في حين خفضت نفقات دفاعها وأعداد جيشها؟ كما حملت الأزمة المالية فرنسا على اتخاذ خطط تقشف كانت سببا في عاصفة اجتماعية وسياسية تمثلت في إضرابات نقابات العمال.. وهدف الحكومة الفرنسية من هذا التقشف هو توفير (70) مليار يورو لمواجهة المديونية وما في حكمها.. يضاف إلى هذا الاضطراب في الرؤية الاستراتيجية لقادة “الأطلسي”: أن تجارب الحلف خارج أوروبا لم تكن ناجحة ولا مشجعة: لا في العراق، ولا في أفغانستان.
6- أما عن الذات – العربية والإسلامية - فهي أسوأ حالا: بمقياس الرؤية الاستراتيجية المطلوبة: الواضحة والبعيدة المدى. فليس هناك استراتيجية معتبرة في العلاقات البينية، ولا مع دول الجوار، ولا تجاه الصراع العربي – الإسرائيلي: ليس هناك رؤية – من هذا النوع – للإقليم وما ينطوي عليه من احتمالات ومخاطر: وشيكة الوقوع أو بطيئته.. وليس هناك رؤية – من هذا النوع – للعالم وهو يمور مورا بالتبدلات والتحولات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي سائر الميادين تقريبا.
ليعلم العرب – بوجه خاص: أن “قوة الرؤية؛”هي خريطة التقدم الحقيقي: العلمي والسياسي والأمني والاقتصادي والفكري والثقافي والإعلامي، وهي مفتاح التعامل مع عالمنا وعصرنا.
فافتحوا عيونكم إلى آخرها، وأبصروا جيدا قبل أن تدهمكم المخاطر وأنتم في عمى استراتيجي مطبق!
زين العابدين ركابي
> الشرق الأوسط ع 11652