يربي المسلمون أنفسهم منذ أن كانوا وما يزالون على ما يحفظونه ويسمعونه من كلام الله سبحانه وتعالى من قرآنه العظيم وعلى ما رواه الصحابة الكرام عن رسولهم المصطفى الأمين سواء ما ورد فيهما من جهة العقيدة الصحيحة أو من جهة الأحكام وكذا من جهة الأخلاق وفضائل الأعمال.
فمما له علاقة بكل ذلك أن المسلمين يعلمون علما أكيدا أن الله سبحانه خلق الإنسان من جملة ما خلق ولكن أكرمه كرما خاصا {اقرأ وربك الأكرم} و{ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}(الإسراء : 70).
ومن تفضيل الله للإنسان أن أنعم عليه بنعم كثيرة ظاهرة وباطنة فكل نعمة كيفما كان شكلها ومستواها يحس المسلم حقيقة ويقينا أنها أتته من الله {وما بكم من نعمة فمن الله}(النحل : 53) فمِن تدل على ابتداء النعمة وانطلاقها من الله. والآية في سياقها تدل على العموم أي أنها تعم جميع النعم ويؤكد هذا المعنى قوله سبحانه {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}(النحل : 18) فتدل على كثرة اتساع هذه النعم وامتدادها امتداداً يصعب حصره وعده. ومن ذلك أنه سبحانه خلق الإنسان ولم يكن شيئا >خلقه الخلق الغيبي وبعده الخلق الانتشاري {ومن اياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون}(الروم : 20) ولذلك فبخلق الله للإنسان وبث روح الحياة فيه يدخل الإنسان عالم الوجود ويخرج من العدم وتلك نعمة كبرى.
ثم إن الله سبحانه برحمته وفضله وحكمته خلق الانسان خَلْقَ تَرْبِيَة أي الخلق المصحوب بالتعليم والتعهد والرعاية والنصح والوصية لآدم في الغيب وعلى لسان الرسل والأنبياء والكتب المنزلة في الحياة الدنيا.
ومن نعم الله عليه أن جعل له رزقا {الله الذي خلقكم ثم رزقكم}(الروم : 40) ولذلك فالله سبحانه هو الخالق الرازق لأنه الرب والربوبية تقتضي الإيجاد (الخلق) والإمداد (الرزق) إلا أن رزق الله للانسان وإن كان يدخل في جملة ما رزقه الله لكل ما خلق من الدواب {وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها}(هود : 6) إلا أن رزق الله للإنسان أعظم وأوفى وأعم.
والرزق له مفهوم عام يتعلق بجميع ما وهبه الله للإنسان من قوة في العقل وسلامة في الحواس وقدرة على التعلم والعلم وامتلاك ما يُمتلك ويدخل فيه الدعاء المأثور : اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه. ومفهوم خاص يتعلق بما وهبه الله للإنسان مما يُقوم عادة بالنقود والدراهم كالأقوات والأنعام والعقارات والذهب والفضة والمراكب والمصانع… وفي اللسان 115/10 : والأرزاق نوعان ظاهرة للأبدان كالأقوات وباطنة للقلوب والنفوس كالمعارف والعلوم. وقال الله سبحانه : {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق}(النحل : 71). وإن كان قد يلامس المفهوم العام ولكنه بالمراد الخاص أشبه وأنسب والناس يلحظون هذا التفاضل في جميع الأزمان والأصقاع (إن الرزق حاصل لجميع الخلق وإن تفاضل الناس فيه غير جار على رغباتهم ولا على استحقاقهم فقد تجد أكيس الناس وأجودهم عقلا وفهما مقتّرا عليه في الرزق وبضده ترى أجهل الناس وأقلهم تدبيرا موسعا عليه في الرزق .
وكلا الرجلين قد حصّل ما حصل قهرا عليه) (تفسير التحرير والتنوير 213/14). ويبدو أن اللغة التي تُراعى أحيانا في بناء ألفاظها وصياغة مدلولاتها مشاعر وأحاسيس الناطقين بها قد استعملت كلمة تعبر عن المدلول الخاص للرّزق وهي كلمة (المال) حيث نجد من اللغويين من اعتبر الألف فيها أصلها ياء، فرأى في مدلولها صلة بالميْل الذي هو (العدول عن الوسط إلى أحد الجانبين) (المفردات 783). فهل (المال سمي بذلك لكونه مائلا أبدا وزائلا)( نفسه 784)، أو أنه يميل إلى بعض الناس دون بعض أو لأن نفس الإنسان تميل إليه وترغب فيه وتتعلق به.
كل ذلك له وجه من الصحة في واقع حياة الناس. والملحوظ أن القرآن الكريم قد استعمل كلا من الرزق والمال في عديد من القضايا يهمنا منها في هذه العجالة من القول، أن القرآن قد أبان للناس أن الرزق والمال عطاء من الله للإنسان {لا نسألك رزقا نحن نرزقك}(طه : 132) {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم}(النور : 33) وكل المسلمين يعترف بذلك ويقر به.
ولاشك أن خبر قارون قد قرع مسامعهم، فقارون وهبه الله سبحانه وتعالى مالا كثيرا وعظيما {وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة}(القصص : 72) ولكنه طغى على قومه بالمال وتجبر وبالغ في إظهار ألوان البذخ وأكثر من التبذير وسلك به سبيل المفسدين وعندما عوقب على ذلك ادعى أن ما عنده من كنوز ومال عظيم إنما أتاه من مهارته وحذقه وحيلته وما وصل إليه من علم فقد نسب ما آتاه الله إلى نفسه فكان مآله أن عوقب عقابا أليما حيث خسف الله به وبداره الأرض.
وهكذا تعلّم المسلمون أن ينسبوا كل ما وصلهم من مال ورزق إلى الله سبحانه فلا تسأل منهم أحدا عن ماله من أين أتاه؟ إلا ويجيبك حامدا بأن الله هو الذي رزقه إياه. ولكن الذي ينساه أو تناساه أغلب الناس ولا ينتبهون إليه أو لا يريدون ذلك هو أن القرآن الكريم قد اعتبر أن المال أصلا هو مال الله وأن المسلم إنما هو مستخلف فيه {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه}(الحديد : 7) يقول القرطبي في بيان معناها (دليل على أن أصل المِلك لله سبحانه وأن العبد ليس له إلا التصرف الذي يرضي الله فيثيبه على ذلك بالجنة.
فمن أنفق منها فهي حقوق الله وهان عليه الإنفاق منها كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه كان له الثواب الجزيل والأجر العظيم)(القرطبي 238/17). فحق المستخلِف الذي هو الله سبحانه على المستخلَف وهو العبد أن يحسن التصرف في مال الله في تحصيله من الحلال وليس من الحرام وفي إنفاقه فيما يرضي الله على نفسه وعلى من يعول من أسرته وأن يصل به رحمه وأن يؤدي حق زكاته وأن يحج منه إن استطاع وأن يشارك في أعمال البر والخير والصدقة والوقف ونشر العلم في بلده وأن يحافظ عليه ولا يعرضه للضياع بالتبذير أو بتعاطي ما يكون سببا في تلفه بل عليه أن يوظفه ويستثمره في مشروعات نافعة ليكثر الرواج وتكثر الأرباح فيكون نصيبه من الزكاة مرتفعاً وهذا مستفاد من قوله تعالى في صفة المومنين المفلحين {والذين هم للزكاة فاعلون}(المومنون : 4) فليس المستفاد منها أداؤهم للزكاة فقط ولكن رغبتهم في العمل والاستثمار قوية لأنهم يعجبهم ويفرحهم :أن يسهموا في الزكاة بنصيب وافر وحظ كبير فهم يريدون أن يصلوا في تطبيق ركن الزكاة إلى أعلى الدرجات فهم يحبون المال ليجلبوا به أكبر قدر من المنافع وفي الحديث : >لا خير فيمن لا يحب المال ليصل به رحمه ويؤدي به أمانته ويستغني به عن خلق ربه<.
فكيف هو واقع المسلمين في هذا الاستخلاف على المال؟ الذي نراه ونسمع عنه في واقع الناس أن الرغبة في جمع المال عندهم قد قويت وأن القناعة قد ضعفت وأن هذه الرغبة الشديدة قد تدفع بكثير منهم إلى ألا ينظروا إلى المصدر الذي يجمعون منه مالهم، لا يزنونه بميزان الشرع من جهة ولا يقدرون المفاسد والمظالم التي يرتكبونها في حق ذويهم أحياناً وفي حق مجتمعهم وبلدهم أحيانا أخرى. دخلت عالم التعامل بالمال مفاسد وأمراض تنخر المجتمع وتقضي على التوازن الطبيعي في مجال الاستثمارات والملكية. بشيوع الرشوة ليس التي هي قليلة المقدار والقيمة فقط ولكن التي تبلغ مستويات عالية في القيمة والمقدار.
بشيوع الاتجار في الخمور والمخدرات والقمار ذات الربح الكثير والسهل والتي تدر أموالا طائلة. إن الحصول على هذه الأموال الكثيرة وبدون وجع كما يقال تتدفق في أيد لاهية تخوض بها غمار الاستثمارات في شتى المجالات بقوة ما لَها من مال فيؤدي ذلك إلى فقد التوازن بين الذين يعتمد رزقهم على ما له علاقة وشبه بتلك الاستثمارات فينتشر الغلاء وترتفع الأسعار. إن مثل هذه السلوكات ليست ناتجة إلا عن شهوة كبيرة إلى جمع المال وحب عارم للمال كما قال سبحانه : {وتحبون المال حبا جمّا}(الفجر : 20) أي تحبون المال لذات المال لجمعه وتكديسه وخزنه والمباهاة به أو التنافس في الحصول عليه بأي وجه وأي طريق من غير اعتبار للحلال والحرام. وإلا كيف ينظر إلى سلوك إنسان معروف أنه من المسلمين وأنه من أصحاب الأموال وتجده يستثمر جزء من ماله في مشروع تجاري تباع فيه الخمر من جملة ما يباع.
هل تجد لهذا المسلم عذرا عند جماعة المسلمين وعند الله؟ هل دفعه إلى ذلك فقر أو حاجة أو إنما هي الرغبة في جمع المال دون تفكير في العواقب. وكيف ينظر إلى آخر يجره حب المال وعنده شكل من أشكال العقار أن يسمح فيه بالعري والرقص الماجن مع الموسيقى الصاخبة المثيرة للشهوات والغرائز وربما انتهى ذلك إلى ممارسة الفاحشة في ذلك المكان وهو انسان مسلم وذو مال وكأنه نسي قوله سبحانه {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة}(النود : 19). هل يرضى أحد من هؤلاء أن يكون مثل ذلك الذي قال الله فيه : {الذي جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده كلا لينبذن في الحطمة}(الهمزة : 2) أو كالذي يقول في يوم الحساب {ما أغنى عني ماليه}(الحاقة : 28).
والذي ينبغي على مثل هؤلاء أن ينتبهوا إلى معاصيهم وأن يُحْيوا في نفوسهم وضمائرهم خشية الله سبحانه وأن يدركوا حق الإدراك أن المال مال الله وأنه وديعة وأمانة يحاسب الإنسان على ما عمل فيها. وما المال والأهلون إلا وديعة ولابد يوما أن ترد الودائع ولا يغُرن امرَأً صحةُ نفسه وسلامة أمسه فمدة العمر قليلة وصحة النفس مستحيلة. وألا يقصروا نظرهم على الدنيا وأن يمدوا أبصارهم إلى الموت وما بعده فـ{كل نفس بما كسبت رهينة}(المدثر : 38) وأنهم عندما يلهثون في جمع المال دون ضابط شرعي فإنه سوف تنتهي حياتهم وقد تركوا ما جمعوا وراء ظهورهم لغيرهم وينتظرهم الحساب على ما جمعوا؛ يقول أحدهم : وذِي حِرْصٍ تَرَاهُ يَلُمُّ وَفْراً لوارثه ويَدْفَع عن حِماهُ ككلبِ الصيد يُمْسِك وهْوَ طَاوٍ فريسَته لياكلَها سِوَاهُ فالذي هو حريص على الجمع إنما يجمع ذلك ليستفيد منه وارثه يشبه كلب الصيد يكون طاويا جائعا وهو يتعب في الإمساك بالفريسة ليقدمها إلى غيره يستحوذ على أكلها. إن المال نعمة من نعم الله على الإنسان لأنه عصب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والذي يشعر بمقدار هذه النعمة أكثر من غيره هو المسلم لأن المال وسيلة هامة من وسائل العبادة والطاعة.
فالمسلم عابد لله في تحصيله للمال وعابد له في إنفاقه وصيانته ينظر إليه على أنه وسيلة وليس غاية. يفرح فرحا كبيرا عندما يرى نتائج ما يقدمه منه لمساعدة الفقراء والمعوزين والمحتاجين والمرضى ويُشرق وجهه وهو يكرم به عباد الله الصالحين من العلماء العاملين ومن طلبة العلم وحفظة القرآن وسنة الرسول .
د. عبد العلي حجيج